من نافلة القول بداية إنّ عناية الإسلام بالعلم ذات ميزة خاصّة بحيث أحاط الإسلام العلم بإطار من الأخلاق الحميدة والهادفة على مستوى الفرد والجماعة، وبأسس من تقوى الله تعالى الذي علّم الإنسان ما لم يعلم لتعصم هذه الأسس البحث العلميّ من أن يكون سبيلًا إلى الفساد في الأرض أو تدميرًا للحياة وشروطها على الأرض وفي الكون الرحيب وليكون مبرّر العلم والبحث العلميّ مصلحة الإنسانيّة وسعادتها وتقدّمها في إطارَيه المادّيّ والمعنويّ.
لقد كان الاهتمام بالعلم والوصول من خلاله إلى مراحل النهوض والاقتدار جزءًا من استراتيجيّة الإمام الخامنئيّ لمستقبل الأمّة، وثمّة خصوصيّة كان يعمل لها الإمام ويظهرها في كلماته وتوجيهاته لمسؤولي الجمهوريّة الإسلاميّة للعمل بالعلم وترجم ذلك في إطلاق الجامعات الجديدة والموازنات الخاصّة لمركز الأبحاث وفي تبيان الدور المناط بالعلم في انطلاق المسيرة على مختلف الأطر إسلاميًّا وفي مشروع الوصول نحو الاقتدار. لقد كان البعد الإسلاميّ في كلام الإمام شفافًا ينفذ للقلب والوجدان، ضمن سلسلة من القناعات الفلسفيّة والروحيّة بحيث ينطلق الإنسان الحرّ الواعد بعمله والعارف بما يفعل وإلى أين يصل: لمصلحة الناس ولمنعة الأمّة ودفاعًا عن الإنسان ولنصرة المستضعفين في كلّ صقاع الأرض، وإنقاذا للبشريّة وصولًا للغاية الأسمى والأنبل ألا وهي رضا الله سبحانه وتعالى، فكلام العلم عند الإمام كان جزءًا من المشروع العقائديّ الروحيّ ومنطلقًا منه وعاملًا لأجله، وتحصيل العلم وجهاد العلم في اعتقاد الإمام واجب سيسأل عنه القادر عليه وسيثاب بعظيم الثواب من عند الله تعالى من حمله وخدم به، ففي كلام الإسلام عن العلم قال الإمام: لقد أضفى الإسلام قدسيّة على العلم، فالعلم شيء مقدّس والتحصيل العلميّ يتميّز بقدسيّة خاصّة. إنّ العلم يختلف عن باقي الأمور، فهو ليس مجرّد وسيلة لتحقيق الثراء كغيره من الوسائل، مع أنّه يحقّق الثراء، ولكن ينبغي الحفاظ على قدسيّته: إنّ العلم نور، وهذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار، وهو أحد شؤون الجامعة الإسلاميّة. إنّ أحد مصاديق العمل الصالح هو نفس النشاط العلميّ الذي تقومون به في الصفّ، أو العمل الذي تقومون به في المصنع أو في المزرعة. إنّ نشر العلم وتوفير فرص العمل عبادة كما أنّ الصلاة وقراءة القرآن عبادة وهذا ليس بالأمر الهيّن([1]).
ويربط الإمام العلم والتعليم والعمل بالسمو الإنساني ودرب الكمال المتوجّه إلى رضا الله تعالى فالعلم زينة للإنسانيّة وأمان لها من الجهل والانحراف والتخلّف، وهو طريق لكسب الثواب الإلهيّ في الدرجة الأولى ثمّ بعدها هو بناء ورقيّ وتقدّم واستقلال واقتدار وعزّة في آنٍ، فيقول مخاطبًا أهل العلم:إنّ الهدف من وراء جعل الثواب على التعليم والعمل هو أنّ الله تعالى جعل كمال البشريّة في العلم والعمل، والمجتمع العاطل عن العمل أو الذي يتكاسل في العلم وكذلك المجتمع الجاهل لا يستطيعان ارتقاء مدارج الكمال البشريّ، وكلّما كان العمل أكثر نفعًا كان الثواب أكثر؛ والثواب هنا، ليس فقط لتعليم القرآن وعلوم الدين، وإنّما لتعليم الجبر، والمثلثات والفيزياء والهندسة، فما دمتم تصنعون من أولاد الناس علماء يفيدون المجتمع بعلمهم، فإنّ تدريسكم هذا فيه ثواب وأجر، هذا هو منطق الإسلام. إذن، المكسب الأوّل هو تحصيل الثواب الإلهيّ، والمكسب الآخر الذي لا يقلّ أهميّة هو المساهمة في بناء صرح مستقبل مجتمعكم([2]).
ولذا، فقد كرّم الإمام العلم والعلماء باعتبارهم حملة ومنتجين للعلم والمعرفة ولما لذلك من أثر إيجابيّ على مستوى المجتمع والأمّة، لكي تقتدي الناس بهم ولكي تتشجّع على طلب العلم، ولقد أحبّ الإمام التواجد بينهم وتحدّث بسعادة عن وجوده بينهم لما هم عليه ولما هي موضوعاتهم الراقية والدقيقة ولما هي ذهنيّاتهم الوقّادة والتي دون شكّ تحمل هم النهوض بالأمّة وتبادر إلى حلّ أزماتها كشريك فعّال في المسؤوليّة الوطنيّة العليا، فقال في كلام موجّه إلى أساتذة الجامعات: التواجد بين أهل العلم مغتنم ومحبّذ لديّ لهذا السبب أوّلًا، وثانيًا أنا سعيد لأنّي مستمع بينكم فالدارج في مثل هذه الاجتماعات أن تطرح القضايا الرئيسيّة حول العلوم والجامعات والمسار في البلاد على ألسن أساتذة الجامعات ونخبها، وهذا بدوره شيء مغتنم بالنسبة لي لأنّه يمنح المسؤولين ذهنيّة سليمة فيما يخصّ قضايا العلم والبحث العلميّ والجامعات…، ثمّ إنّ بعض هذه الشؤون التي تطرح ستعالج بشكل طبيعيّ، مثلما تمّت متابعة الأفكار المطروحة في الأعوام الماضية ووصلت لنتائج جيّدة([3]).
كما حثّ الإمام المجتمع على تكريم أهل العلم وعبّر عن احترامه الخاصّ لهم تشجيعًا لهم على ما يقدّمون وتشجيعًا لطلابهم السائرين على نهجهم، وتواضع الإمام لهم وتحدّث عن احترامه لهم، فهو يتقصّد في تكريمهم ليرسل رسالة لشباب الأمّة أنّ التكريم إنّما هؤلاء يستحقّونه، وعلى من يريد أن يكون مكرمًا عليه السير في دربهم لأنّ الأمّة تحتاج لأناس مثلهم، مقدرًا ومثمّنًا للدور المفصليّ لهم في عمليّة النهوض، فقال في جلسة له مع لفيف من النخبة العلميّة في البلاد: الاحترام الذي أحمله في قلبي للأساتذة وللعلماء أردت أن ينعكس على مستوى المجتمع. نحن بحاجة لأن يشعر علماؤنا وأساتذتنا بالكرامة والاحترام في المجتمع. إن أفضل مشجع على نشر العلم هو تكريم العلم. أساتذة جامعاتنا، والشخصيات البارزة والنخبة في مراكز البحث العلميّ هم ممّن يعدّون شخصيّات علميّة ونخبويّة مميّزة. وبالتالي، فهذه الجلسة هي بالدرجة الأولى لهذا الهدف الذي يتحقّق والحمد لله بهذه اللقاءات. اعلموا أيّها الأصدقاء الأعزّاء والإخوة والأخوات أنّني أشعر بالاحترام والتكريم والتواضع في قلبي للعالم والعلم، وأطمح أن نحمل جميعنا وفي كلّ أنحاء البلاد- المسؤولون وكلّ واحد من أبناء الشعب ومختلف المستويات الإداريّة في المجتمع- هذا الشعور ونعبّر عنه عمليًّا وهو ما يحصل طبعًا.ولكن ثمّة إلى جانب هذا قصد آخر من هذه الجلسة هو أن تطرح آراء وأفكار نخبتنا وشخصيّاتنا في شتّى القضايا العلميّة والتعليميّة والتربويّة وتذاع في المناخ العامّ للبلاد([4]).
وفي إطار آخر، يدعو الإمام لإطلاق الطاقات والإبداعات الكامنة في أفراد الأمّة وأن تعيش المؤسّسات حالة التنافس بين مواقع التعليم العالي والتنافس بين الأساتذة الجامعيّين وأن تعطى الرابحة منها الجوائز والامتيازات، في عناوينها الإيجابيّة نحو الأرقى والأفضل، وذلك لتحفيز أهل العلم وبيئته نحو الاهتمام بالجودة ونحو نزول الجامعات الإيرانيّة حلبات التنافس العلميّ الدوليّ، ثمّة أيضًا إصرار على إطلاق التنافس البنّاء في الإبداعات، ويقول الإمام في هذا الإطار: ينبغي أن يكون هناك تنافس قويّ وبناء جدّيّ في البلاد في مجال الإبداعات العلميّة والإبداعات التقنيّة تبعًا لها. يجب أن يكون هناك تنافس بين جامعات البلاد وبين الأساتذة وبين النخبة ولتخطيط أجهزة ومؤسّسات التعليم العالي لإيجاد هذا التنافس أيضًا بين الجامعات الراقية. ثمّة على سبيل المثال جامعات راقية في مجال العلوم التقنيّة والهندسة، وهناك جامعات ذائعة الصيت في العلوم الإنسانيّة، وكذا الحال في باقي الحقول والميادين العلميّة ليوجدوا التنافس والسباق بين مختلف الجامعات، ولتمنح الجامعات الامتيازات والرتب.
لكنّنا نؤكّد على أنّ هذا النموّ الكمّيّ يجب أن يكون مصحوبًا باهتمام بالجودة والنوعيّة. أوّلًا يجب تشخيص الرتبة الكيفيّة والنوعيّة للجامعات في البلاد أي على أجهزة إدارة الجامعات في البلاد، تشخيص أي الجامعات دون الخطّ المعتبر للجودة، ثمّ التخطيط لرفع المستوى النوعيّ لهذه الجامعات. هذه من الأعمال اللازمة جدًّا والتي لا بدّ أن تنجز بمعنى أنّه يجب الاهتمام بالكيفيّة كموضوع مستقلّ([5]).
ومقولة العلم والإبداع من وجهة نظر الإمام سبيل إلى إحياء الحضارة والحضور الفاعل والمتقدّم بين الأمم ولإقامة العدالة والمعنويّات في العالم، والعلم بحسب رؤية الإمام قائمة على ثلاثة أركان: العدالة، والمعنويّات والعقلانيّة، والمطلوب من حملة العلم أن يتحرّكوا ضمن هذه الأركان وتحت ظلالها: العدالة شعار وعنوان حاكم والعقلانيّة صفة ملازمة للعلم وقداسته والخروج عنها يؤدّي إلى ضلال أهل العلم والتسبّب بمعاناة الإنسانيّة حيث آثار انحراف العلم هي قاسية وجدّيّة ولا تحتمل البشريّة نتائجها.
ويتوقّف المتابع أمام التكامليّة في هذه الرؤية للعلم في إطاريها العقائديّ الإسلاميّ وفي انعكاساتها على الأمّة، وأيضًا على مستوى الذات الإنسانيّة، ذلك أنّ تحصيل العلم يصنع إنسانًا مقتدرًا متماسكًا واثقًا بنفسه، ويصنع أمّة تثق بالله وتتوجّه نحو اغتنام نقاط القوّة لتصنع لها الاكتفاء والغنى والكرامة والقدرة على النهوض والاستمرار، وقد قدّم الإمام مقارنة بين مقدرات الأمّة اليوم وأوضاعها المزرية فيما لو تخلّت عن ثقتها بنفسها، فقال في كلام له مع أساتذة الجامعات: والعلم يمثّل أحد أبرز الركائز الأساسيّة للثبات والاستقامة. فالعلم هو الذي منحنا الثقة بأنفسنا. فلو كانت الشركات الأجنبيّة اليوم هي من يتولّى عمليّات استخراج وتصفية النفط، ومدّ أنابيب الغاز، ولو كان نظامنا الصحّيّ معتمدًا على الكوادر الصحّيّة الأجنبيّة وتحديدًا الغربيّة، ولو كان غذاؤنا مرهونًا بهم، أو كانت زراعتنا وصناعتنا بيد الإسرائيليّين، ولو كانت صناعتنا النوويّة- في حال تقرّر أن لا نموت في حسرتها وأن يكون لنا شيء منها- بيد الفرنسيّين والألمان والآخرين، لمّا كانت هذه الثقة بالنفس التي نمتلكها اليوم، ولما كانت هذه القدرة على الثبات، ولمّا كان هذا العزّ والشرف. فلو كنّا نلجأ إلى الكفاءات الشرقيّة أو الغربيّة في تشييد سدّ ما، أو بناء مفاعل ما، أو إنشاء طريق سريع أو شقّ نفق، أو إنشاء صومعة للقمح، ما كان لشعبنا أن يشعر بالعزّة، كما لم يكن باستطاعة مسؤولينا أن يقفوا مرفوعي الرأس مقابل الاستكبار العالميّ، ولم تكن هذه الثقة بالنفس، ولم تكن قوّة الإرادة هذه، ولم تكن مثل هذه العزيمة. من الذي عبد لنا الطرق وشقّ لنا الأنفاق وبنى لنا محطّات الطاقة والسدود والجسور والطرق السريعة والمخازن الاستراتيجيّة والطاقة النوويّة؟ ألم تكن الجامعات هي التي ساعدت الشعب الإيرانيّ ليحفظ عزّته وماء وجهه ليقف بتحدّ وإباء إزاء أطماع الأعداء، فمسؤولو البلد مدينون للجامعة من هذه الناحية أيضًا([6]).
نستنتج ممّا تقدّم أنّ ثمّة قداسة للعلم والتحصيل العلميّ، وهناك ضرورة للحفاظ على قدسيّته والإنفاق على العلم استثمار للأمّة، والله تعالى جعل كمال البشريّة في العلم والعمل، كما أنّ تحصيل علوم القرآن والفقه هي عبادة، فإنّ تحصيل سائر العلوم بنيّة منفعة الأمّة والدفاع عنها هو أيضًا عبادة، أنّ المراد من العلم كما رآه الإمام الخامنئيّ هو سعادة البشريّة ورفعة إنسانيّة الإنسان، ووقف الظلم وتحقيق العدالة في الأرض فلا فصل بين العلم والدين فثمّة أرض مشتركة بينهما، والعلم سلاح للمستضعفين عليهم الأخذ به والجهاد فيه، وإلّا فهلاك الأمّة ينتظرها في صراعٍ قاسٍ مع الغرب الذي لا يرحم والذي يفتقد الإنسانيّة لديه، حيث القتل والإبادة مبرّران وممكنان لديه فيما لو اقتضت ضرورات مصلحة الدولة أو ما يسمّى الهيمنة والمصالح الدوليّة.
أخلاقيّات العلم عند الإمام الخامنئي، د. عبد الله زيعور
[1] خطبة بتاريخ 19/1/2006، مع أساتذة وطلبة جامعة الإمام الصادق (عليه السلام)، بعنوان “الجامعة ودورها في صناعة الثورات العلمية والفكرية”.
[2] لقاء الإمام مع وزير العلوم وأساتذة جامعة طهران في 21/3/2010 بعنوان “العلم سلطان”.
[3] كلمة الإمام الخامنئي في اللقاء مع أساتذة جامعة البلاد بتاريخ 13/11/2002.
[4] كلمة الإمام الخامنئي في لفيف من النخبة العلميّة بتاريخ 24/9/2008.
[5] كلمة الإمام الخامنئي في لفيف من النخبة العلميّة بتاريخ 24/9/2008.
[6] كلمة الإمام مع أساتذة الجامعات في شهر رمضان 24/8/2011.