التربية العشوائية هي أن تربي أبناءك “على مزاجك”، أو وفقا لما تربيت أنت عليه، وفي الغالب هي مزيج بين الاثنين، فالأزواج الجدد غالبا ما يتسامرون حول الأسماء التي يودون منحها لأطفالهم.
تحكي الزوجة لزوجها عن مدى حبها للأولاد وأنها تود أن ترزق بولد يشبه أباه لأنها تحبه كثيرا، أما الزوج فيحدث زوجته عن أمنيته في أن يرزقه الله بابنة، لأن البنات أحن على الآباء من الصبيان.. ثم إن البنت قد تدخل أباها الجنة إذا أحسن تربيتها.. لكن هل يتحدث الوالدان عن طريقة تربية الأبناء؟ وهل يأتي الزوج بكتاب عن تربية الأبناء كي تقرأه الأم قبل وضعها.
آباء وأبناء
تقول سميرة 25 سنة: أنا أحب الأطفال بشدة، وأتمنى من الله أن يرزقني بطفلة جميلة لأنني سأقوم بتربيتها كما تربيت، فقد رباني أبواي والحمد لله أحسن تربية، على القيم والأخلاق الحميدة.. ولكني فقط خائفة ألا أنجح في تربية ابنتي كما رباني أبواي.
أما محمد فيقول: بالطبع التربية مهمة المرأة.. فالأب غالبا خارج المنزل، والأم هي المكلفة بتربية الأبناء، وإذا طلبت زوجتي كتابا يتحدث عن كيفية تربية الأبناء سأعطيها المال لتشتريه.. فلا مانع لدي في أن تقرأ زوجتي عن تربية الأبناء.
ومن جانبه يقول هاني: بالطبع لا أريد أن أربي أبنائي تربية عشوائية، ولكني في نفس الوقت لن أربي أبنائي وفقا للنظريات الحديثة الخاصة بعدم ضرب الأبناء نهائيا وعدم تعريضهم لأي مواقف صعبة، فأنا أعمل مدرسا وأعلم جيدا أن الأولاد إن لم يتربوا جيدا فإنهم سيخرجون للمجتمع لا يهمهم شيء، وهنا سينطبق المثل القائل: “على نفسها جنت براقش”، على آباء هذه الأيام.
وأخيرا كان لـ “هناء” هذا الرأي: أربي أبنائي بشكل جيد، وأحاول أن أتبع كل ما أقرأه عن التربية الجيدة والمناسبة لأطفال هذا الزمان، ولكني في حالات الغضب أو الضغط لا أستطيع أن أتبع هذه الأساليب التي “تفقع المرارة”، فأبنائي أشقياء وأحيانا لا يصلح معهم إلا الحزم والتهديد والصراخ، أما في حالتي الهادئة فإنني أعاقبهم كما يقول الكتاب.
حكاية مجتمع
وفي تعليقها على هذه الآراء تروي فاطمة المهدي، المستشارة التربوية، قصة مجتمعنا العربي من خلال قصة صديقتها فتقول: سألتني صديقة: هل للزواج الناجح شروط؟ أجبت: بالطبع، وكيف لا؟ ثم أعددت لها شروط الزواج الناجح.. ومرت الأيام.. وتزوجت صديقتي.. فرحت لخبر حملها الأول، ووضعت صديقتي مولودها.. ومرت الأيام.. والسنون، وانتظرت أن تسألني صديقتي عن شروط التربية الناجحة، لكنها لم تفعل.. التزمت الصمت أو آثرته أو هكذا هي فهمت أنها بمجرد الزواج والإنجاب فكأنما وصلت إلى غايتها الكبرى في الحياة، وجاءت اللحظة التي كنت أتوقعها منذ فترة.. “صديقتي تعاني في تربية ابنها”.. (لا تعلم كيف تواجه عناده- احتياجاته العمرية- لا تعلم كيف تتواصل معه فهو على حد تعبيرها أفقدها صوابها).
تستطرد المستشارة فتقول: سألت نفسي نفس السؤال الذي يراودني عند حل كل مشكلة: فنحن في بلادنا نقوم بالتحضير ليوم الزفاف، الضيوف، فستان ليلة العمر، مكان الفرح، حتى أننا نرتب للطعام الذي نأكله في هذا اليوم قبلها بفترة ليست بقصيرة.. ولكننا في المقابل للأسف لا نطلع على كتالوج الزواج الناجح، ومن ثم التربية الناجحة.. ننسى أو نتناسى أو تلك هي ثقافة مجتمعاتنا التي نصر كتربويين على محاولة تغييرها، وكأننا نسبح ضد التيار.
لماذا لا نطلع على كتالوج التربية قبل الزواج وقبل الحمل أو حتى قبل الوضع؟ فنحن نذهب للطبيب عندما نعاني ألما، وإلى الطبيب النفسي عندما تنتابنا مشكلات نفسية، لكننا وللأسف لا نتبع تلك القاعدة التي نرددها ليل نهار: “الوقاية خير من العلاج”.
فتلك المقولة لا تتعدى طرف اللسان، ولا نحاول أبدا أن نطبقها إلا بعد أن تقع الكارثة.
أما بالنسبة للمصطلحات الخاصة بالتربية العشوائية والتربية المنظمة والتربية العلمية، فهي في حقيقة الأمر قد تكون مصطلحات متعارف عليها في مجتمعاتنا بالاسم، ولكننا نراها رأي العين عمليا في بعض الأسر، وأكثرها على الأغلب “التربية العشوائية”، وبالرغم من اختلافي مع التربية العشوائية – رغم أنها الأكثر انتشارا- إلا أنني لست مع التربية العلمية أيضا، لأن أنجح طريقة في التربية هي “التربية الناجحة أو الفعالة”، ولأن هذا المصطلح كبير ومطاط فهناك آباء يرون أن النجاح هو إلحاق أبنائهم بمدارس أجنبية تلبي لهم كل احتياجاتهم التربوية والتعليمية، وهناك آباء يرون أن النجاح هو نجاح الدراسة.. وهناك من يرون أن النجاح هو أن يحصل أبناؤهم على ميداليات وشهادات تقدير في الرياضة التي يلعبونها.
وتكمل كلامها فتقول: إن التربية الناجحة لا تأتي بالاطلاع على الكتب العلمية أو الدورات التربوية فقط، ولا تأتي بالتعنيف والضرب، إنما تأتي بالتواصل الحميم مع الأبناء، هذا التواصل الذي يحوي بين طياته الرفق في بعض الأمور والحسم في أمور أخرى.. تأتي تلك التربية بالتوجيه السليم في الوقت المناسب، لن تأتي تلك التربية إلا من أب وأم واعيين لدورهما جيدا.. يمسكان العصا من المنتصف، مشاعر حب ومودة وتوجيه وحزم في آن واحد.. وأخيرا فلابد أن يعلم جميع الآباء أن التربية الناجحة تحتاج إلى جهد ووقت وصبر.
تعريفات هامة
ومن جانبها تقول أميرة بدران، الأخصائية النفسية: إن التربية العشوائية هي تربية تلقائية لا تركيز فيها إلا على سد الاحتياجات الأساسية بشكل كبير من طعام، وشراب، وملابس، وتعليم قدر الإمكان، وغيره من الأساسيات، يكون فيها الأب والأم في حالة دأب على تلبية كل المطالب بحب كبير للأبناء ناتج عن طبيعة فهمهم للمسئولية تجاه الأبناء، والمتمثلة من وجهة نظرهم في تلك الأساسيات، ومنها أن الوالديّة عطاء وتضحية؛ لذلك فإن هذا النوع من التربية ينتج لنا أبناءً حسب ما تجود به الظروف المحيطة.. فقد يكون مساندا لتلك التربية العشوائية مناخ صحي وصحبة جيدة، فتكون شخصيات الأبناء في حالة من التكيف الجيد مع العلاقات الخاصة بالمجتمع، والذات، والمستقبل.
أما إذا كان المناخ المصاحب لهذه التربية غير صحي، بالإضافة إلى صحبة السوء وضعف السلطة الوالديّة – حيث إن هذا النوع من التربية يعتمد على عطاء الأبوين وحبهما – فإنه قد ينحرف الأبناء ولكن بمستويات متفاوتة حسب الخبرات والظروف.
وتضيف أميرة قائلة: إن التربية العشوائية توفر عنصر مهم جدا من عناصر الحاجات الأولية للتربية، ألا وهو الحب والرعاية التي توصل للابن رسالة مهمة جدا له في الحياة، وهي أنه شخص محبوب ويستحق الاهتمام، فيثق الابن في نفسه رغم غياب الرعاية النفسية المتخصصة في التعامل مع مراحل العمر المختلفة للأبناء، وتتوقف بشكل كبير على الوالدين وفهمهم للتربية ونظرتهم لها، فنجد مثلا نماذج مثل طه حسين، وزويل، والشعراوي، أبناء لتلك التربية.. وفي المقابل نجد “التوربيني”، وأطفال الشوارع هم نتاج لنفس التربية التي تتوقف في كل الأحوال على طبيعة فهم وإدراك الوالدين للتربية من وجهة نظرهم.. ويمكن القول إن التربية العشوائية كالبطيخة “اما تصيب او تخيب” (أي: أصابت أو خابت).
أما بالنسبة لنوع التربية الآخر المعروف بالتربية “النفسية”، والتي يتعامل فيها الآباء بحرص شديد وفقا للتعامل السليم من الناحية النفسية ومواجهة مشكلات الأبناء، فإن هذا النوع من التربية قد وجد في المستويات الاجتماعية العليا، وغالبًا ما يكون الوالدان على درجة ثقافية جيدة جدا ويتبعون كل ما يشير له علماء النفس في التربية، وهي تنتج لنا أبناء ناجحين على المستويات العلمية والاجتماعية، ولكنها تفتقر لدرجة كبيرة نسبيًا للوجدان والعاطفة، فنجد الأبناء يتعاملون مع كل شيء، سواء أنفسهم أو علاقاتهم الاجتماعية أو الدراسية أو غيره، وفقا لكتالوج “ما يجب أن تكون عليه الأمور”، والذي يعرفونه جيدا وكأنهم آلات تفتقر للمرونة، وهؤلاء الأبناء يكونون على درجة كبيرة من الحذر والحفاظ على ارستقراطية العلاقات.
أما التربية “المتوازنة” فهي فعلا تلك التربية التي تأخذ من مميزات كل نوع من أنواع التربية وتتفادى عيوبها قدر الإمكان، فتوازن بين العطاء والتدليل، وبين القسوة والحزم، وبين السيكولوجية والوجدان، في إطار شامل للدين ودرجة مقبولة من المرونة التي تسمح ببناء شخصية الابن بشكل سوي قدر الإمكان، والتي توفر عنصر الاحترام والمصداقية والمرجعية الناضجة.
ولم تتوفر أي إحصائيات يمكن الاستناد عليها حتى الآن بخصوص التربية الشائعة في الوطن العربي، ولكنها تتراوح بين التربية العشوائية والتربية القاسية والنفسية بقدر تقدم البلد العربي وثقافته المتغلغلة فيه.