بسم الله الرحمن الرحيم
ليتني لم أعرفك
ها أنا أجلس وحيداً في هذه الزاوية المظلمة في سجني الصغير الذي يسمونه “مركز إعادة التأهيل” الخاص بالمدمنين! أفتح خزانة أسراري، دفتر المذكرات، لأستودعه كلمات يلهج بها ما بقي من نبضات قلبي المتعب.
كنت سأنهي دراستي الجامعية التي لم يتبق منها إلا قليل من تعب يزيله فرحة التفوق حين تعلن النتائج، لأعيش في أحضان المستقبل المشرق، أبني عشي الخاص، بيتي وعائلتي… وأحقق ذلك الأمل الذي كان ينبعث دفئاً في لهجة أمي كلما نطقت باسمي أمام جيرانها والأقارب…
ولكن آه لما اقترفته يداي، ويا لسوء اختياري، أيعقل أن أنقلب من حال إلى حال بسبب صديق؟!
أذكر عندما التقيته أوّل مرّة، تعرّفت إلى شابٍ يملك الصفات التي أطمح إليها، بطموحه وشجاعته وجرأته، (حتى عضلاته التي طالما دلّلها في النادي الرياضي حتى غدت كلاعبي الأثقال، فحاولت أن أكون مثله وأمتلك نفس العضلات) كان صاحباً أغلى من الماس والذهب بل كلِّ كنوز الدنيا، ولم أكن لأقدم على صحبته أيّاً من سائر الأصحاب الذين عرفتهم في الدراسة والحي، وسرعان ما ملكني وسيطر عليّ حتى صيّرني مجرّد تابع له أسير على خطاه!
لقد سلبني نفسي، وأصبحت أرى فيه كل شيء، أوهمني بأنه مثال للرجل الرجل، بشخصيته القوية، وأنه الحر المستقل برأيه والذي تمنحه حريته كل ما يريد.
كان يخفي وراء عباراته الخادعة وتصرفاته الرعناء، كل ضعف وسقوط.
كان زميل الدراسة والصديق الوحيد الذي حدثته بأسراري ووثقت به، ولم يخطر ببالي أنه سيكون سبب سقوطي وانزلاقي…
أذكر ذلك اليوم المشئوم عندما أتاني قائلاً: تعال معي إلى مشوار لن تنساه في حياتك…
من دون أن أفكر للحظة: إلى أين؟ وكيف؟ ولماذا؟ سارعت خلفه، ظاناً أننا سننضم إلى أصدقاء آخرين في مطعم أو استراحة…
لكن الأمر كان غير هذا، حينما بدأ يحدثني عن مضايقة الأهل، والنزاع مع طلاب المدرسة، بدأ يستهزئ بكل شيء حولنا… طلب مني أن أتناول تلك الحبة” لأعدّل مزاجي” قلت له حينها أنا لا أعرف ما هذا الدواء، فقال لي: حبة من هذا تخفف عنك الضغط وترتاح (كل الأطباء يصفونه ويمكنك أن تشتريه من الصيدلية) وترددت في البداية ولكنه أقنعني بتناوله حبة قبلي، وتناولت تلك الحبة…
وآه لتلك الحبة التي تلتها حبّات وحبّات وصرت أشعر برغبة دائمة في تناولها، ولا زلت أذكر تلك الليلة التي نزلت في الصقيع إلى الصيدلية التي تجاور منزلنا، وأخرجت الورقة التي كتب لي فيها اسم (الحبَّة) وناولتها للصيدلي بكل ثقة، فصدمني حينما ارتبك وناولني تلك الحبوب في لحظة غفلة من باقي الزبائن.
وكانت نظرته إليَّ حينها أول نظرة شفقة وازدراء أتلقاها في حياتي، لا أدري لمَ شعرت حينها بتلك الشفقة في عينيه ولم أفهم سرها إلا حينما أدركت الحقيقة.
وسرعان ما وجدت نفسي مدمناً على أنواع شتى من تلك السموم: حبوب… وحقن… وغيرها… آتيه كل يوم لأبيع رأسمال الإنسان الوحيد في هذه الدنيا ألا وهو العقل، نعم بعت عقلي، وماذا يبقى من الإنسان عندما يبيع عقله…
لم أنس يوم أتيته طالباً جرعة أخرى فقال لي: لم يعد معي منها، ولا نملك مالاً لشرائها…
حيث دخلت في سجل السارقين لأول مرة في حياتي، سرقت أبي، أبي الذي أهداني كل ما هو جميل في الحياة… وكنت قبل ذلك سرقت من عينيه بريق الأمل الذي كان يلوح كلّما نظر إليّ، وأحللت مكانه نظرة إحباط وألم، ودمعة حزن يعتصرها قلبه الذي حطّمته بيدي. ذلك البيت الذي كان حلم حياته، والذي كان يدخر عناء السنين الطويلة ليشتريه، ذلك البيت الذي ذبح أضحية على بابه، وافتتحه بمجلس عزاء حسيني للبركة… والذي ضم بجدرانه عائلتنا بكل دفئ وحنان… لم يتردد ببيعه ليؤمّن مصروف علاجي في هذا المركز… لقد حطمت في لحظة طيش، لحظة ظننت أن صديقي الزائف هو الحياة كلها… حطمت أمل الأهل بولدهم البار، وحطمت جنا عمر والدي، وحطمت كبرياء أمي أمام الأقارب والجيران… حطمت نفسي وحطمت مستقبلي…
كنت أمنّي نفسي بأنني وإن خسرت الدنيا ولكن ستبقى لي الآخرة، فإنني سأقف هناك بين يدي رب رحيم…
رددت هذه الكلمات أمام أحد جيراننا، شاب صالح متدين كان صديق طفولتي، تخليت عنه منذ فترة طويلة ولكنني تحدثت إليه هذه المرة لعلي اسمع منه ما يوقف تأنيب الضمير: هل يحرم تعاطي المخدرات شرعاً ؟؟ ابتسم ذلك الشاب الصالح ابتسامة باردة، وفتح كتاب استفتاءات كان في يديه ورمقني بعينيه لأقرأ.
فقرأت:
يحرم استعمال المواد المخدرة والاستفادة منها مطلقاً نظراً إلى ما يترتب على استعمالها بأي شكل كان من الأضرار الشخصية والاجتماعية المعتد بها، ومن هنا يحرم التكسب بها أيضا بالحمل والنقل والحفظ والبيع والشراء وغير ذلك.
ولكن الذي هزَّ كياني بقوة تلك الرواية التي سمعت إمام المسجد القريب يرددها في إحدى كلماته لتقتحم بيتي وأذني وتسقط كالصاعقة على قلبي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله: “سيأتي زمان على أمتي يأكلون شيئاً اسمه البنج، (وهو…) انا بريء منهم، وهم بريئون مني”.
حينها شعرت أنّ السماء قد وقعت على رأسي، واسودّت الدنيا في عيني.
إذا كان شفيعي بريء منّي، فهل سيبقى لي أمل في الآخرة؟!
حينما كنت أتلو القرآن الكريم أيام العافية لم أكن أعرف ما معنى قوله تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾ والآن عرفت أنّ صديقي الفاسد هو المقصود بها، وأنّي أنا القائل والنّادم في ذلك اليوم.
فيا ليتني لم أعرفه ولم أتخذه صديقاً.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴾