لا شك أن كل إنسان يرتبط بأرض أو قبيلة أو قومية فإنه يعشقها، وهذه العلاقة بالأرض أو القبيلة، ليست غير معيبة فحسب، بل هي عامل بناء لأبناء المجتمع، إلا أن لهذا الأمر حدودا، فلو تجاوز الحدود فإنه سينقلب إلى عامل مخرب، وربما إلى عامل مفجع. والمراد من التعصب أو العصبية القومية أو القبلية المذمومة والسلبية، هو الإفراط في التعصب أو العصبية…” التعصب “و” العصبية ” في الأصل من مادة (عصب) ومعناه واضح، وهو الغضروف الذي يربط المفاصل، ثم أطلق التعصب والعصبية على كل ارتباط… إلا أن هذا اللفظ أو هذين اللفظين يستعملان عادة في المفهوم الإفراطي المذموم. إن الدفاع المفرط عن القوم أو القبيلة أو الأرض والوطن، كان مصدرا لكثير من الحروب على طول التاريخ، وعاملا على انتقال الخرافات والتقاليد السيئة على أنها آداب وسنن في قبيلة ما أو أمة ما! إلى أمم أخر! هذا الدفاع أو الانتماء المتطرف، قد يبلغ حدا بحيث يرى أسوأ أفراد قبيلته في نظره جميلا، وأحسن أفراد القبيلة الأخرى في نظره سيئا… وكذلك الحال بالنسبة إلى السنن والآداب السيئة والحسنة… وبتعبير آخر: إن التعصب القومي يلقي ستارا من الجهل والأنانية على أفكار الإنسان وعقله، ويلغي التقييم الصحيح! هذه الحالة من العصبية كانت لها صورة أكثر حدة بين بعض الأمم، ومنهم العرب المعروفون بالتعصب. وقد قرأنا في الآيات الآنفة أنه لو أنزل الله القرآن على غير العرب لما كانوا به مؤمنين. وقد ورد في الروايات الإسلامية التحذير من التعصب، على أنه خلق مذموم، حتى أننا نقرأ حديثا عن رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: “من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية، بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية”([1]). ونقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه: “من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه”([2]). ويستفاد من الروايات الإسلامية أيضا، أن إبليس أول من تعصب… يقول الإمام علي (عليه السلام) في بعض خطبه – المعروفة بالقاصعة – في مجال التعصب كلاما بليغا مؤثرا، ننقل جانبا منه هنا: “أما إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناري وأنت طيني([3]). ثم يضيف الإمام علي في خطبته هذه قائلا: ” فإن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور”([4]). ويتضح من هذا الحديث – بجلاء أن التعصب والدفاع المستميت عن بعض الحقائق والايجابيات ليس غير مذموم فحسب، بل بامكانه أن يسد فراغا روحيا قد ينشأ من ترك بعض العادات الجاهلية المقيتة. لذلك نقرأ عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) حين سئل عن التعصب قوله: “العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم”([5]). والتعبير الآخر عن العصبية الوارد في بعض الروايات أو الآيات هو الحمية (حمية الجاهلية). وبالرغم من أن الأحاديث في هذا المجال كثيرة، إلا أننا نختم بحثنا بحديثين منها: يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ” إن الله يعذب ستة بست – العرب بالعصبية، والدهاقنة بالكبر، والأمراء بالجور، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهل ([6]). وكان رسول الله يتعوذ في كل يوم من ست “من الشك والشرك والحمية والغضب والبغي والحسد”([7]).
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
([1]) أصول الكافي، الجزء الثاني (باب العصبية ص 32).
([2]) المصدر السابق.
([3]) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، رقمها 192.
([4]) المصدر السابق
([5]) أصول الكافي، ج 2، باب العصبية، ص 233.
([6]) البحار، ج 73، ص 289.
([7]) المصدر نفسه.