Search
Close this search box.

حياؤك: جمالك الحقيقي

حياؤك: جمالك الحقيقي

 بجلالة بنات الأنبياء، ووقارهم، جاءت تمشي على استحياء؛ لتنقل رسالةً مختصرةً من أبيها الشيخ الكبير إلى كليم الله موسى (ع)؛ (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) (سورة القصص، الآية 25).

مقدّمةٌ مختصرة من قصّة قرآنيّة، تُصوّر حياء ابنة شعيبٍ (ع)، في حديثها مع الضّيف الذي حلّ في مَدْيَن، وساعدها وأختها في السقاية، عندما وصل إلى البئر، ورأى أنّهما قد اتّخذا زاويةً بعيدةً عن النّاس؛ ريثما يُفسح المجال لهما بالسقاية، تقول الآية المباركة: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (سورة القصص، الآيتان23-24).

ما معنى الحياء؟ ولماذا التركيز في النصوص الدينيّة على ضرورة تحلّي المرأة به، على الرغم من كونه صفة إنسانيّة عامّة؟

ما ارتباط الحياء بالحجاب؟ وما هو المطلوب من المرأة حتى تحافظ على حجابها؟

الحياء… حياة:

في تتبّع لمعنى الحياء يتبيّن أنّه لفظٌ يشترك في مادّته ـ «حيي»ـ مع «الحياة»، و»التحيّة». وأنّ لهذه المادّة أصلان: أحدهما خلاف الموت، والآخر الاستحياء الذي هو ضدّ الوقاحة[1]، وذهب بعض علماء اللّغة إلى أنّ الأصل في هذه المادّة واحدٌ، وهو: «ما يقابل الممات، (…) وقد ذكرت في القرآن الكريم في مقابل الموت والهلاك (يحيي ويميت)….، وأمّا التحيّة – فمرجعها طلب الحياة ظاهرة وباطنة، مادّيّة ومعنويّة لمن يحيّى… ، وأمّا الاستحياء ـ فمرجعه إلى حفظ النّفس عن الضّعف والنّقص، والبُعد عن العيب والشّين وما يسوءه، وطلب السلامة ومطلق الحياة، وهو ضدّ الوقاحة، قال تعالى: (فَجاءَتْه ُإِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) (سورة القصص، الآية25)»[2].

وبهذا يتّضح أنّ الحياء يعني طلب الحياة. وأنّه لم يرد في القرآن بهذا اللّفظ إنّما وردت مفردات أخرى، منها الحياة، والاستحياء؛ للدلالة على المعنى نفسه.

الحياء خُلق الإسلام:

ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (ص): «إنّ لكلّ دينٍ خلقًا، وإنّ خلق الإسلام الحياء»[3].

والحياءُ خصلةٌ إنسانيّةٌ عامّةٌ، وفضيلةٌ أخلاقيّة. قرنت في كثيرٍ من الأحاديث الشريفة بالإيمان، حيث ورد: «الحياء والإيمان في قرن واحد، فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر»[4]، وفي حديثٍ آخر عن رسول الله (ص): «لا إيمان لمن لا حياء له»[5]. وغيرها كثير من النّصوص الدينيّة التي أكّدت على ضرورة التحلّي بهذه الصّفة.  وتوجّهت في الخطاب إلى الرّجل والمرأة على حدٍّ سواء. لكنّها اعتبرته أشدّ عند المرأة وأوجب؛ فقد ورد في الحديث عن رسول الله محمد (ص): «الحياء حسن، لكن في النساء أحسن»[6]3، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ المرأة تميل بطبعها إلى الجمال والتجمّل. وغالباً ما نراها تهتمّ باللّباس، والزينة؛ فتحتاج إلى العفّة والحياء؛ لتزكّي بهما هذا الجمال، يقول
الإمام علي (ع): «زكاة الجمال العفاف»[7]4 .

الحجاب والحياء:

لطالما ارتبط مفهوم الحياء بالحجاب، وعدّ ملازماً له، فالحجاب لا بدّ أن ينطلق من الحياء.  وينعكس على سلوك المحجبة وأفعالها ولا سيما مع الرجال؛ كما صورت الآية القرآنية حال بنتي نبي الله شعيبٍ (ع) عند السقاية أولاً؛ حين اتخذتا زاوية بعيدة عن الناس، وفي مِشية إحداهنّ ثانيًا. عندما نقلت رسالة أبيها إلى موسى (ع).

والحجاب في الإسلام يتخطّى مرحلة الالتزام الظاهري؛ ليحكي عن حقيقة أرقى. وهي العمل على بناء منظومة قيم يحتلّ فيها الحياء أعلى المراتب؛ ورد في الحديث الشريف: «المكارم عشر فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن. (…): صدق اليأس وصدق اللسان وأداء الأمانة وصلة الرحم(…). ورأسهنّ الحياء»[8].

من هنا لا بدّ من ترشيد التربية التي تتلقّاها المرأة داخل أسرتها. فلا يقتصر الأمر على الالتزام بالحجاب الظاهري. إنّما يجب العمل على صناعة شخصيّة إيمانيّة. تلتزم بالتكليف الإلهيّ، وتدرك عظم هذا التكليف الملقى على عاتقها، فتتحمّل مستلزماته ومسؤوليّاته الفرديّة والاجتماعيّة؛ ما يرفع مكانتها في المجتمع بما تملكه من جمال باطنيّ ملؤه الأخلاق والقيم التي دعت إليها الشريعة الإسلامية.

وفي تتبّع لسيرة السيدة فاطمة (ع)

يتبيّن أنّ للحجاب أبعادًا تربويّةً وسلوكيّةً تتخطّى كونه ساترًا للرأس والجسد؛ فالحجاب يعني الحشمة، والعفاف، والالتزام بالتكليف. ومراعاة الضوابط الشرعية التي أمر الله سبحانه بها. من عدم رفع الصوت. (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (سورة الأحزاب، الآية32). وإخفاء الزينة أمام غير المحارم، (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (سورة النور، الآية31)،… وغيرها من السلوكيات التي لا بدّ أن تلتفت إليها المرأة في حياتها.

لكن سؤالاً يطرح. وهو كيف يمكن للمرأة، التي تميل بطبعها إلى الجمال والتزيّن، أن تحافظ على حجابها الظاهريّ والباطنيّ، في عصرٍ كثرت فيه الإغراءات، والتحدّيات. ودخلت الموضة إلى مجتمعنا من أبوابه الواسعة؟!!

وهل حجاب المرأة يمنعها من التجمّل والتزّين، ويجعلها تعيش بمنأىً عن مجتمعها؟

الله جميلٌ… يحبّ الجمال:

إنّ حبّ الجمال ـ أيًّا كان نوعه ماديًّا أو معنويًّا ـ ناشئٌ من الفطرة التي تصبو دائمًا نحو الكمال المطلق؛ فتنجذب إلى كلّ جميل في الكون يوصلها إليه. وهل هناك كمالٌ مطلقٌ وجمال مطلق سوى الله سبحانه مبدأ الوجود ومنتهاه؛ (إنّا لله وإنا إليه راجعون) (سورة البقرة، الآية156).

 من هنا لا بدّ أن ينشد الإنسان كلّ جمال يعكس صورة الحقّ سبحانه. ويكون مرآة حاكية عن صفاته وأسمائه. وقد خلق الله تعالى الأشياء الجميلة، وأحبّ أن يرى أثر تلك النعم على عباده؛ فأمرهم بالتزيّن، والتجمّل، من خلال اللباس، والنظافة، والتعطّر،… وغيرها.

ونلاحظ أنّ الآيات القرآنيّة تدعو بشكلٍ صريح إلى استحباب التزيّن والتجمّل ظاهرًا وباطنًا؛ قال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين) (سورة الأعراف، الآية31). والدعوة في الآية موجّهة لعموم بني آدم؛ رجالاً ونساء.

وقد ورد في تفسير الآية أقوالٌ كثيرةٌ:

أبرزها أنّها تتحدّث عن الزينة الجسمانيّة الظاهريّة. التي تشمل لبس الثياب المرتّبة الطاهرة الجميلة، ومشط الشعر، واستعمال الطيب والعطر وما شابه،… استنادًا إلى مجموعة من الروايات والأخبار التي تبيّن اهتمام الإسلام بالزينة؛ حيث إنّنا نقرأ في تاريخ حياة الإمام الحسن المجتبى (ع) أنّه عندما كان ينهض إلى الصلاة كان يرتدي أحسن ثيابه. ولمّا سئل: لماذا يلبس أحسن ثيابه؟ قال: «إنّ الله جميلٌ يحبّ الجمال، فأتجمّل لربيّ وهو يقول: «خذوا زينتكم عند كلّ مسجد»[9].

هذا التعبير يعيدنا إلى النقطة الأولى التي أشرنا إليها، وهي أنّ الله سبحانه هو مصدر الجمال والكمال، وقد خلق لنا الأشياء الجميلة في عالم الوجود، ودعانا إلى الاستفادة من كلّ أنواع الزينة. والجمال الماديّ والمعنويّ، فقد ورد في حديث آخر: «إن الله جميل يحبّ الجمال ويحبّ أن يرى أثر النعمة على عبده»[10].

  وفي حديثٍ آخر

أنّ أحد الزهّاد، رأى الإمام الصادق (ع) يلبس ثيابًا غالية الثمن، فقال معترضًا عليه: يا أبا عبد الله، إنّك من أهل بيت نبوة(…)، فما لهذه الثياب المزيّنة عليك؟ (…) فقال له أبو عبد الله (ع): «ويلك ـ يا عباد ـ من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق؟»[11].

لكن الدعوة إلى التزيّن يعقبها دعوة أخرى إلى عدم الإفراط والمبالغة. وهو ما ورد التأكيد عليه في ذيل الآية المباركة: (ولا تسرفوا)؛ فالتزيّن والتجمّل مطلوب بما لا يتنافى مع الضوابط التي وضعتها الشريعة الإسلامية.

ومنها عدم الإسراف، ومراعاة أحوال المجتمعات خاصّة المحرومة منها؛ يسأل أحد الأئمّة (ع) عن سبب ارتداء الملابس الفاخرة على الرغم من أنّ جدّه لم يكن يرتدي مثلها، فيجيب: (…) كان في زمان ضيق، وإنّ الله قد وسّع علينا[12].

ولباس التقوى خير:

تطالعنا آيةٌ أخرى في كتاب الله سبحانه، تتوّجه بالخطاب إلى بني آدم عمومًا. بأنّ الله سبحانه قد أنزل عليهم لباسًا يواري سوآتهم، ويزيّن أجسامهم… لكنّه يلفتهم إلى لباسٍ آخر أهمّ وأرقى، وهو لباس التقوى، حيث قال سبحانه: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (سورة الأعراف، الآية 26).

يلحظ القارئ أنّ الآية تتحدّث عن نوعين من اللباس؛ لباسٌ ظاهريّ يختّص بجسد الإنسان فيستره من جهة. ويزيّنه من جهة أخرى، وهو ما يشار إليه من خلال التعبير بـ : «ريشاً» الذي يعدّ كسوة وزينة للطائر.

ولباسٌ معنويّ باطنيّ أهمّ يزيّن روح الإنسان ويضفي على شخصيّته رفعةً وسمواً وجمالاً ينعكس على جماله الظاهري، وهو ما تعبّر عنه الآية بـ : (لباس التقوى)؛ الزينة الحقيقية للإنسان؛ لأنّها تقيه من الأخطار الفردية والاجتماعيّة، لذلك عبّر عنها -سبحانه- بقوله: «ذلك خير»[13]1.

ورد عن الإمام الباقر (ع):

في تفسير قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً)؛ فأمّا اللّباس فالثياب التي يلبسون، وأمّا الرياش فالمتاع والمال، وأمّا لباس التقوى فالعفاف[14].

فالتزيّن الظاهري مطلوب ضمن ضوابط محدّدة، لكنّ الأهمّ هو اللّباس الباطنيّ؛ أي لباس التقوى الذي فسّر بالعفاف أو الحياء، وهما مفهومان مترابطان يكاد لا يفرّق بينهما في كثير من الأحيان. فالعفاف من أمّهات الفضائل الأخلاقيّة، وهي صفة تمنع الإنسان عن فعل القبيح. والحياء فرع من فروع العفّة، وله دور في ثباتها، فقد ورد في الحديث: «على قدر الحياء تكون العفّة»[15]، وفي حديث آخر: «أصل المروءة الحياء وثمرتها العفّة»[16].

خلاصة القول، الحياء صفة رفيعة تزّين شخصيّة المرأة وتصونها، وتضفي عليها جمالاً حقيقيًّا…

فتزيّنّ أيّتها الفتيات بالحياء؛ تحيَيْن.

————————-

[1]- يراجع: ابن فارس، أحمد: معجم مقاييس اللغة، (لا ط)، قم، مكتبة الإعلام الإسلامي، 1404هـ ، ج2، ص122.

[2]-  انظر: المصطفوي، حسن: التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ط1، طهران، مؤسّسة الطباعة والنشر، 1417هـ ، ج2، ص338.

[3]- القزويني، محمد بن يزيد: سنن ابن ماجة، (لا ط)، بيروت، دار الفكر، (لا تاريخ)، ج 2، ص 1399، ح4182.

[4]- العاملي، محمد بن الحسن: وسائل الشيعة، ط2، قم، مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، 1414هـ.ق، ج12،  ص168.

[5]- الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي، ط 4، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365هـ.ش، ج2، ص106.

[6]-  الهندي، علاء الدين: كنز العمّال، (لاط)، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1409هـ، ج15، ص896، ح43542.

[7]- الواسطي، علي بن محمد: عيون الحكم والمواعظ. ط1، (لا م)، دار الحديث، (لا ت)، ص275.

[8]- الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي، ط 4، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365هـ.ش، ج2، ص56.

[9]  العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج4، ص455.

[10]  الكليني، الكافي، م.س، ج6، ص438.

[11]  العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج5، ص16.

[12]  النوري، حسين، مستدرك الوسائل، م.س، ج3، ص240.

[13]1  انظر: الشيرازي، ناصر مكارم: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ط1، بيروت، مؤسسة البعثة، 1413هـ، ج5، ص8.

[14]  (تفسير القمي، ج1، ص226).

[15]  الليثي، عيون الحكم والمواعظ، ص327.

[16]  الليثي، عيون الحكم والمواعظ، ص 112.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل