ندى بنجك
مشمسٌ ونديٌّ هو الزمان والمكان.
أنا الآن هنا في سامرّاء، والحنين دوّار في حنايا القلب، والذكريات ناي، وثمّة وجوه تتمشّى في البال بنضرة الماء المجاور، وأصوات بأنس الصلاة، ودموع بطعم التهجّد داخل السرداب. أجلس في الباحة الخارجيّة، وأفتح باب الوجدان على رحلة تنبض مشهداً مشهداً، يوم جئت قبل مدّة لتسجيل وقائع فتح الطريق في سامرّاء إلى مقام العسكريّين عليهما السلام وأحداثها وتصوير ذلك كلّه.
مجاهدون كبار من قادة الحشد الشعبيّ، رافقوه في كلّ الرحلة، من اللحظة الأولى حتّى الساعات الأخيرة، اجتمعوا والحكاية طويلة شامخة يروونها جنب النخيل.
بعض الحكايات لا يحتاج إلى مقدّمات.
سامرّاء والحاج قاسم سليماني، حرف الله في سورة الرحمن، بسم الله وبالله، “مرج البحرين يلتقيان”.
* دموعٌ وألم
لا ينسى الشيخ سامي المسعودي، متولّي العتبة العسكريّة سابقاً، الدموع التي انهمرت على وجه الحاج قاسم سليماني (رضوان الله عليه)، والغصّة التي جرحت صوته. وهو يخبره عن مشهديّة تهديم القبّة الشريفة في مقام العسكريّين عليهما السلام في سامرّاء، يوم أقدم الإرهابيّون من تنظيم القاعدة، على قصف المقام عام 2006م. منذ تلك الساعة، كأنّ جرح المقام ينزف من قلبه، ينتظر لحظة التاريخ، لفتح وجهة جديدة في العراق، وفكّ الحصار عن المقام.
* إنقاذ سامرّاء
في العاشر من حزيران من العام 2014م، سقطت الموصل في يد تنظيم داعش، أطبق الضيق والحصار على سامرّاء. قُطع الطريق بشكلٍ كامل عن مقام الإمامين العسكريين عليهما السلام. اشتدّ الخطر في المكان؛ قصف وغبار وسيّارات محروقة، وتهديد من جديد بهدم القبّتين. وبعد تكليف من القائد الوليّ السيّد عليّ الخامنئي دام ظله. ولقاء مع رئيس الوزراء العراقيّ حينها نوري المالكي والتنسيق معه. حضر الحاج قاسم (رضوان الله عليه) بهدف التحرّك السريع لإنقاذ سامرّاء، وفتح الطريق، وتأمين الحماية للمقام الشريف.
* قرار المواجهة
وفي اليوم التالي، وجّه الحاج أبو مهدي المهندس دعوة إلى جميع القادة الجهاديّين في العراق من مختلف الفصائل؛ لحضور اجتماع طارىء في منزله للتباحث وعرض المستجدّات والتحرّك الذي ينبغي أن يكون.
في الليلة نفسها، بعد أن غادر المجتمعون، عاد واستدعاهم الحاج أبو مهدي مرّة ثانية بعد منتصف الليل. ترأّس الجلسة حينها الحاج قاسم سليماني. حضروا، وتلقّاهم بالقرار الحاسم، وسط الخرائط المفروشة أمامهم. وفي غمرة النقاش والعرض الشامل لما تؤول إليه الأمور سريعاً في العراق. أعلن الحاج قراره: ينبغي التحرّك بدءاً من هذا الليل، من أجل فتح الطريق في سامرّاء. وفكّ الحصار عن مقام العسكريّين عليهما السلام. كان الطرح صادماً للجميع. فلا الظروف ولا الميدان مهيّئان لهذا النوع من التحرّك. ليس في العراق أيّ تشكيل جهاديّ بإمكانه أن يخوض المواجهة، العدوّ مدجّج بكامل الأسلحة العسكريّة. فيما هم لا يملكون لا عتاد ولا أفراد مدرّبين. فردّ قائلاً لهم: “إن لم نتحرّك اليوم، سيدخل تنظيم داعش إلى كلّ العراق. ينبغي اتّخاذ القرار بالمواجهة مهما كلّف الأمر”.
* ولادة الحشد
كان أمن سامرّاء همّاً كبيراً يشغل تفكيره؛ إذ كيف يمكن لهذا العابر في أرض الله أن يترك مقام الإمامين العسكريّين عليهما السلام تحت قبضة المجموعات التكفيريّة المجرمة؟
في صباح 13 حزيران 2014م، حصل الأمر المفصليّ الذي أعلن بداية زمان آخر على أرض العراق، حيث أصدر المرجع السيّد علي السيستاني (حفظه الله) فتوى الجهاد الكفائيّ، معلناً تأشيرة المواجهة والقتال ضدّ المجموعات الداعشيّة.
إنّ التوأمة بين قرار الولاية من الإمام الخامنئيّ دام ظله وفتوى المرجعيّة من قِبل السيّد السيستاني (حفظه الله) كانت كافية لأن يعلن الحاج قاسم بداية التحرّك السريع؛ من أجل فتح الطريق إلى المقام. طلبوا منه أن يتمهّل؛ كي تتمّ عمليّة التشكيل والتدريب وتأهيل المجموعات العسكريّة القادرة على الجهاد. فكان ردّه بأنّ البلاد في حالة غرق، تحتاج إلى إنقاذ فوريّ، موجّهاً إليهم جملته الحافرة في قلوبهم: “إذا كنتم لا تريدون الذهاب الآن، سأذهب بمفردي”.
ومن بيت أبي مهدي المهندس خرجت خطط المواجهة، وانطلقت تسمية الحشد الشعبيّ.
* زحف بشريّ ضخم
في الليلة ذاتها، توزّع القادة في الميدان، وكان فتح الطريق إلى مقام سامرّاء هو أولى الشرارات التي أشعلت درب القتال، وأعلنت بداية العمليّات العسكريّة. طوفانٌ شعبيّ فاضت به معسكرات التدريب من معكسر “التاجي” شمال بغداد، إلى معسكر اللواء 17 في منطقة “بلد” شمال بغداد أيضاً. وزحفت قوافل الناس إلى المعسكرات بالثياب المدنيّة تلبيةً لنداء المرجعيّة. معلنةً التحاقها بالمرحلة الجديدة.
* رغم الخطر
في معسكر اللواء 17، كان الحاج قاسم (رضوان الله عليه) يحمل الأرض على كتفيه، ويسجّل أسماء القادمين بنظرات عينيه. أوّل الواقفين في الميدان كان. وأولى خطوات الانطلاق كانت صلاة؛ سحب كوفيّته من على كتفه. وفرشها وسط الباحة، صلّى ركعتين، ثمّ انطلق مندفعاً نحو السيّارة غير المصفّحة! نظر إليه من حوله بذهول: “ما الذي يفعله هذا القائد؟! الأعداء يحيطون بالطريق من كلّ مكان. لماذا لا يتمهّل على الأقلّ حتّى ينسدل الليل؟! بإمكانه أن لا يكون في الميدان، بل يبقى في نقاط آمنة يشرف فيها على عمليّة التقدّم!”. عبثاً حاولوا إقناعه، مرةً أخرى يكرّر عليهم: “إن أردتم البقاء أنا سأذهب بمفردي”. ركب السيّارة، أدار المحرّك، وقبل أن ينطلق، كانوا قد اصطفّوا جميعهم خلفه، يعبرون معه الطريق. انطلق الموكب، وسط أنباء وصلت أنّ الموكب سوف يتعرّض للقصف من قِبل المجموعات الإرهابيّة، التي تحيط بالمكان.
أكملوا طريقهم ولم يتراجعوا. وبالفعل، ما إن وصلوا إلى نقطة جسر المحطّة في منطقة “بلد” المكتظّة بالإرهابيّين، حتّى انهال القصف على الرتل المتقدّم بعنف وبمختلف أنواع الأسلحة. حصل اشتباك شرسٌ بين الطرفين، وارتفع خلاله عدد من الشهداء. فقرّر القادة المجاهدون دخول “بلد”؛ لتأمين الحماية للموكب، وإعادة وضع خطط جديدة لإكمال العبور. مكثوا في “بلد” ثمانية أيّام، وخلالها أعادوا عمليّة تأهيل المسير، وتأمين الخطط كافّة والجهوزيّة اللازمة.
* طلبٌ خاصّ ملحّ
في هذه الأثناء، كان الحاج قاسم سليماني قد توجّه إلى لبنان، في رحلة طارئة، التقى سماحة الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في ليل 16 حزيران 2014م، واضعاً بين يديه مطلباً في غاية الأهميّة: أن يزوّده بـ 120 مجاهداً من الكوادر النوعيّين؛ لرفد الجبهات في العراق بخبرتهم العالية على كلّ المستويات. في جوف الليل، تمّ الاتّصال بمجموعة من النخبة الجهاديّين الميدانيّين، وسرعان ما تجهّزوا وانطلقوا. كان بانتظارهم الحاج قاسم سليماني. فأخبرهم عن طبيعة المهمّة التي سيتحمّلون مسؤوليّتها وخطواتها. قائلاً لهم حرفيّاً: “إنّ حزب الله زجاجة عطر يجب أن تفوح في كلّ مكان”. ما إن وطأوا مطار بغداد، أعلن لهم: “ها قد وصلتم إلى كربلاء”. أراد أن يربط أرواحهم بالقضيّة، فنصرة الحسين عليه السلام في كلّ ميدان وزمان.
* خطّة سامراء
أصرّ الحاج قاسم أن يقوم شخصيّاً باستطلاع جويّ فوق منطقة سامرّاء. مستكشفاً كلّ الجهات والممرّات المحيطة بها، غير آبهٍ لخطورة قصف الطائرة من قِبل داعش. واستعدّ الرتل للانطلاق مجدّداً من مدينة “بلد”.
من يوم 13 إلى يوم 25 حزيران 2014م، لم تكن الأيام بالساعات، بل كانت بالنبضات.
كانوا قد انعطفوا في المسير باتّجاهين؛ فرقة تأتي من “بلد” تُجاه نقطة تسمّى “الإسحاقي”، والفرقة الأخرى تأتي من نقطة في سامرّاء إلى جنوبها، بحيث تتلاقى الفرقتان في نقطة واحدة، وتكملان معاً درب المسير.
كانت الساعة تشير نحو الثالثة ظهراً، حينما اتّصل أحد قادة منظّمي موكب العبور بالحاج قاسم معلِماً إيّاه بخطوات المسير. وصل الجميع إلى نقطة واحدة، وبقي العمل على خطّة إكمال المسير، والوصول إلى نقطة المقام.
* طريقٌ محفوفٌ بالمخاطر
هذه فرصة لن يدعها الحاج قاسم تفلت من أمنيته أبداً، فلا مكان للتأخّر، ولا مجال للتعذّر بالخطر، فالطريق المؤدّي إلى المقام تلفّه أبراج مراقبة الدواعش، وثمّة مفخّخات قد يتعرّض لها المسير؛ لذلك، ينبغي العبور في توقيت مدروس من كلّ الجوانب.
أشار الحاج قاسم لمرافقه في السيّارة بإكمال العبور، فأجابه مذهولاً: “لكنّ المكان كلّه خطر، من المستحيل أن نكمل”! فردّ الحاج قاسم بجدّيّة: “اجلس إلى جانبي، أنا سأقود”. وبالفعل، قاد الحاج قاسم السيّارة المدنيّة، وتابع مستطلعاً كلّ أبراج المراقبة برجاً تلو الآخر. من يُصدّق أنّ الأمر قد بات على بعد أمتار؟!
* احتفال الوصول
عند الغروب، وصل الحاج قاسم ومعه كلّ الموكب، وفي مقدّمتهم الحاج أبو مهدي المهندس، الذي كان ملازماً للحاج قاسم في المهمّة طيلة الوقت، وهو من قاد العمليّة، وكان المسؤول عن متابعة تنفيذ مهمّة فتح الطريق تُجاه سامرّاء.
عند مدخل المقام، أقام العراقيّون العابرون احتفاليّة يسمّونها في تراثهم “الهُوسة” ابتهاجاً وفرحاً بهذه اللحظة التاريخيّة، التي حُرموا منها لسنوات طويلة. بعدها، طلب الحاج قاسم من الشيخ المسعودي، متولّي العتبة، أن يتوجّه إلى داخل شبّاك الإمامين عليهما السلام.
* مختصر الزمان
ثلاث ساعات كانت خلاصة العمر ومختصر الزمان. فبعد الساعة 12 ليلاً، توجّه الحاج قاسم والشيخ المسعودي وبعض المرافقين إلى داخل المقام، وكان المشهد غاية في التأثير، لا يحيط به أيّ وصف أو كلام. فبعد البكاء، وعناق المكان، ولثم كلّ ذرّة وكلّ طرف قماش وكلّ جدار. جثا الحاج قاسم على ركبتيه، وراح يمسح بقميصه أرض المقام، يتنقّل من جهة إلى أخرى، ومن زاوية إلى أخرى، ويمرّغ وجهه بالبلاط ثمّ في جنبات الضريح كلّه. طال الوقت وهو على هذا الحال، ثمّ صلّى صلاة الليل. وبعد الصلاة، مناجاة من القلب، همس بكلماتٍ ناجى فيها صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، نقلها عنه حرفيّاً شيخٌ كان برفقته، كان يردّد: “يا صاحب الأمر أدركنا. يا صاحب الأمر سامحنا. نحن قصّرنا في المجيء. أدركنا”!
* صدقة جارية
أيّ صدقة هذه يا حاج قاسم تركتها للأمّة كلّها؟! فمواكب الزوّار التي لا تنضب، لن تنسى ما صنعت، وأريج عطر المقام الفوّاح، وغبار الزوايا سيظلّ يعيد مشهد المعركة والفتح الذي قام، وهديل الحمام يهديك الصلاة والسلام.