كنت برفقة السيّد جواد أثناء زيارتي المرّة الأولى لمشهد المقدّسة.زرناه وجلسنا في باحة، وعرّفني على صديقه “حسن” الذي بدأ بالتحدّث، ثمّ سألني: “هل تعرف آية الله الخمينيّ قدس سره؟” قلت “لا”، قال: “أنت مقلّد مَنْ؟”(1)، فأجبته: “ما معنى مقلّد؟”. نظر الاثنان إليّ بتعجّب. انصرفا عن متابعة السؤال، ثمّ قدّم السيد جواد وصديقه توضيحات تفصيليّة حول رجل باسم آية الله الخميني قدس سره.
بعدها، ألقيا نظرة فاحصة على ما حولهما، وأخرج أحدهما من تحت قميصه صورةً، واضعاً إيَّاها أمام عينيّ؛ صورة رجل كهل روحانيّ(2)، يرتدي نظّارة، مشغولٍ بالمطالعة، وتحته كانت العبارة: “آية الله العظمى سيّد روح الله الخمينيّ“. سألني: “أتريد أن أعطيك هذه الصورة؟”، أجبته بسرعة: “نعم، أريد ذلك”، فقال حسن صديق السيّد جواد: “ينبغي ألّا يرى أحد هذه الصورة، وإلّا فإنّ السافاك -وهذا الاسم كنت أسمعه للمرّة الخامسة تقريباً- سوف يلقي القبض عليك”.
أخذتُ الصورة وأخفيتها تحت قميصي. ودّعتهما، دخلتُ الفندق، وأخرجتُ الصورة من تحت قميصي. أمعنتُ النظر إليها لساعات. في اليوم الرابع، ذهبتُ إلى المحطّة واشتريتُ تذكرة حافلة لـ”كرمان”، وكانت الصورة ذات اللونين الأبيض والأسود التي أصبحتُ شغوفاً جدّاً بها، مخبّأة تحت قميصي ملتصقةً بقلبي. أحسستُ أنّي أحمل معي شيئاً قيّماً جدّاً.
ما إن وصلتُ “كرمان” حتّى عرضتُ الصورة على صديقي علي يزدان پناه الذي كان يُعتبر حينها مرجع معلوماتي الثورجيّ، فسأل بتعجّب: “من أين لك بهذه الصورة؟! لو ألقوا عليك القبض ورأوها معك، ستقع في داهية أو يقتلونك”! حينها، أحسستُ بجرأة وشجاعة عجيبتين؛ كنتُ أشعر أنّ السافاك بات خصمي في الكاراتيه، سرعان ما سأطرحه أرضاً!
كانت “كرمان” في حالة تغيير؛ مدينة كرمان الهادئة الآن ترتفع فيها يوميّاً مئات الأصوات المعارضة للشاه. أصبحنا الآن ستّة ثوريّين ومعادين للشاه ومن أنصار الإمام الخمينيّ قدس سره: أحمد، وعلي، وأنا، وبهرام، واثنان من إخواني هما سهراب ومحمود، اللّذين كانا في مرحلة الفتوّة.
كنّا أنا وأحمد وعدد من شباب “كرمان”، وبالاشتراك مع أخ اسمه “واعظي”، نكتب شعارات على الجدران صباحاً ومساءً. أكثر الشعارات كانت “الموت للشاه” و”تحيّة للخمينيّ”. كما كانت صورة الخمينيّ قدس سره مرآتي، أنظر إليها مرّات عدّة يوميّاً، وكأنّه أصبح جزءاً من وجودي.
في أواخر العام 1356 هـ.ش (1977م)، وبعد أن أدّيتُ امتحان الحصول على رخصة القيادة ونجحت، راجعتُ مركز شرطة المرور لأتسلّم الرخصة. قال لي ضابط: “ادخل، في الواقع وقّع الخمينيّ على رخصتك، وهي جاهزة للتســـلُّم”، لــم أفهــم شيئاً من نبرة كلامه. أخذني إلى غرفة، ودخل أيضاً اثنان من الضبّاط. بدؤوا يوجّهون إليّ سباباً ركيكاً، وقاموا بمحاصرتي، فلم يكن هناك طريق للفرار. انهالوا عليّ بالصفع والركل وشتائم بذيئة جدّاً؛ كانوا يقولون: “أنت تذهب ليلاً للكتابة على الجدران؟!”. انهالوا عليّ بالضرب حتى خارت قواي، فسقطتُ أرضاً. كان الدم يسيل من أنفي ووجهي. ركلني أحدهم بجزمته على بطني وضربني حتّى أحسستُ أنّ أحشائي قد تمزّقت. وعلى الرغم من كوني رياضيّاً وكنت أمارس تمارين صعبة في رياضة الكاراتيه، فإنّ قواي قد انهارت، وفقدتُ الوعي.
حين أفقت، كان باب الغرفة مغلقاً وأنا مسجونٌ فيها. ولأنّ إدارتي الشرطة الجنائيّة وشرطة المرور كان مركزهما مقابل الفندق الذي كنت أعمل فيه سابقاً، فإنّ عناصر الشرطة كانوا يعرفونني جيّداً باسم “عامل الحاجّ محمّد”، فقام أحد الضبّاط بإخبار الحاجّ محمّد والحاج “كارنما” الذي كان له محل بيع قطع الغيار بجانب الفندق، وكان يعرفني جيّداً، عن احتجازي.
كنتُ أسمع من داخل الغرفة صوت الحاجّ محمّد والحاجّ “كارنما” يقولان لضابط الشرطة: “هذا عامل بسيط وبائس، هو أصلاً لا يعرف شيئاً حول هذا الكلام!”. لقد حاولا بكلّ الوسائل المتاحة إنقاذي. وبعد مرور نصف يوم، وقبل أن يسلّموني للسافاك، أطلقوا سراحي من مركز الشرطة الجنائيّة.
بجسمٍ مهشّم تماماً، أخذا بيدي لأعبر الشارع. أخذاني إلى الفندق، سقياني العصير، وبعدها تحسّنت حالي قليلاً. قبّلني الحاجّ محّمد، وناداني بكلمة “ابني”، وبصوت خافت جدّاً همس في أذني: “لو وقعتَ ثانية بيد هؤلاء، فلن يرحموك”! أصرّ عليّ أن أعود إليه، شكرته وخرجتُ من الفندق، وذهبت إلى بيتنا حيث كنّا نسكن نحن الخمسة الثوريّين.
لم أكن قادراً على الحركة لثلاثة أيّام من شدّة الألم، لكنّني أحسستُ في نفسي بطاقة جديدة. لقد زال خوفي من الضرب والتعذيب. كنتُ أقول لنفسي إنّ ما حدث قد حدث! وكأنّ هذه الحادثة أثّرت فيّ كتأثير الوشم الذي كنّا نضربه في الطفولة، على شكل شامة صغيرة خلف أيدينا، بكلّ ضربة وركلة وجّهوها إليّ، حُفرت كلمة “الخمينيّ” في أعماق وجودي.
(*) مقتبس من مذكّراته: لم أكن أخاف شيئاً.
(1) التقليد في فقه مدرسة آل البيت عليهم السلام هو أن يعود كل مكلّف إلى مرجع مستوفٍ للشروط ليأخذ منه أحكام دينه.
(2) روحانيّ في الفارسيّة تعني عالم دين، أو طالب علوم دينيّة. وهو عادة معمّم.