Search
Close this search box.

الاحتجاجات الرضويّة: حججٌ دامغة

الاحتجاجات الرضويّة: حججٌ دامغة

الشيخ باقر حسين

“ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرّضا عليه السلام؛ ما جفا أحداً، ولا قطع على أحد كلامه، ولا ردّ أحداً عن حاجة، وما مدّ رجليه بين يدي جليس، ولا اتّكى قبله”(1). هكذا وصف إبراهيم بن عباس الإمام الرّضا عليه السلام، مضيئاً على خُلقٍ خاصّ بأهل بيت النبوّة ومهبط العلم أثناء حوارهم وجلوسهم واحتجاجهم مع الآخرين.

يطلّ هذا المقال على مشاهد من احتجاجات الإمام الرّضا عليه السلام، التي رسم ظروف معظمها المأمون لغاية في نفسه، فرُدّ كيده إلى نحره.

• ظروف الاحتجاج
بعد حسم معركة المأمون مع أخيه لصالحه، كان أوّل تدبير اتّخذه هو التفرّغ لحلّ مشكلة العلويّين، الذين كان يشعر بخطرهم. لذلك، لجأ إلى رأس الهرم الشيعيّ؛ أي الإمام الرّضا عليه السلام، ودعاه من المدينة إلى خراسان وعرض عليه ولاية العهد، ظنّاً منه أنه سيكون أشدّ تحكماً بالشيعة من خلال الإمام عليه السلام، وأكثر إظهاراً للناس أنّ الدنيا قد نالت من زهّاد آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وبعد قبول الإمام عليه السلام مرغماً، ازداد حضوره عليه السلام في مختلف الساحات، وبخلاف ما خطّط المأمون، بدأ يستشعر الخطر على خلافته، فاتّخذ قراره بالتخلّص من الإمام عليه السلام. لم يلجأ المأمون مباشرةً إلى القتل، وإنّما اعتمد جملة من الأساليب، راجياً بذلك أن يصل إلى مبتغاه من إسقاط مقام الإمام عليه السلام وإزاحته عن الطريق، وكان من جملة تلك المحاولات عقد مجالس للحوار مع مختلف الأديان والمذاهب والفرق.

• الثروة العلميّة للإمام الرّضا عليه السلام
الثروة العلميّة التي قدّمها الإمام الرّضا عليه السلام للعالم الإسلاميّ شملت ألوان العلوم والمعارف كافّة من فلسفة وطب وفقه وتفسير وتاريخ وتربية وآداب وسياسة واجتماع وغير ذلك. وقد روى المؤرّخون(2) أنّ ما طُرح على الإمام عليه السلام يبلغ أكثر من عشرين ألف مسألة في مختلف أبواب المعرفة، فأجاب عليه السلام عن جميعها، متحدّياً جبروت المأمون وسائر من يجهل فضل أهل البيت عليهم السلام. كما أُثر عن الإمام الرّضا عليه السلام، إضافة إلى الاحتجاجات، مجموعة من الآثار مثل: طبّ الإمام الرّضا عليه السلام، ومسند الإمام الرّضا عليه السلام، وصحيفة الإمام الرّضا عليه السلام المعبّر عنها بالرضويّات، ورسالة جوامع الشريعة، ونُسب إليه عليه السلام كتاب فقهيّ عُرف بفقه الرّضا عليه السلام.

• مجالات الاحتجاجات وعددها
تحقّق الاحتجاج والحوار المفتوح مع سائر أرباب الأديان والمذاهب والاتّجاهات على أصعدة شتّى، وتحدّى فيه الإمام الرّضا عليه السلام – باعتباره الشخصية العلميّة الوحيدة اللامعة في العالم الإسلاميّ- كلّ أصحاب الأديان والمذاهب والفرق وفاقهم جميعاً(3).
رغم ما وصل إلينا من الحوارات والاحتجاجات الغنيّة، فإنّه من غير المعلوم ما إذا كانت قد سجّلت كتب التراث كلّ ساحات الحوار ونصوصه، وذلك لوجود شواهد تاريخيّة على إصرار المأمون على حجب هذه الحوارات عن الانتشار. وقد تنوّعت مجالات الحوار فشملت: التوحيد، والنبوّة، والأنبياء والإمامة، والمذاهب الإسلاميّة، والخلافة والصحابة، وغيرها من مسائل الخلاف بين المسلمين.

• تأثير احتجاجاته عليه السلام
ساهمت احتجاجات الإمام الرّضا عليه السلام في تحقّق مجموعة من الأهداف، منها:
1. تحدّي أرباب الأديان والمذاهب، والتفوّق العلميّ لمدرسة أهل البيت عليهم السلام الرساليّة.
2. فتح باب انتشار ثقافة أهل البيت عليهم السلام في أوساط المجتمع الإسلاميّ.
3. توجيه المسلمين إلى خطّ أهل البيت عليهم السلام الرساليّ، ودعوتهم للانجذاب إليهم دون غيرهم بأسلوبٍ غير مباشر.
4. التأكيد على خطّ التشيّع المبنيّ على الاعتقاد أنّ الإمامة منصب إلهيّ، والإمام علمه لدنيّ، وتقديم حوار الإمام عليه السلام كشاهد تطبيقيّ على ذلك.

• شواهد ونماذج
نعرض مقتطفات من تلك الحوارات ليظهر للقارئ الكريم كيف تصدّى الإمام عليه السلام لهذه المهمّة التبليغيّة:
1. حواره مع عليّ بن الجهم: عن أبي الصلت الهروي، قال: “لمّا جمع المأمون لعليّ بن موسى الرّضا عليه السلام أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات، فلم يقم أحد إلّا وقد ألزمه حجّته كأنّه قد ألقم حجراً، قام إليه عليّ بن محمّد بن الجهم، فقال له: يا ابن رسول الله، أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى. قال: فما تعمل في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ (طه: 121)، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ (الأنبياء: 87)، وقوله في يوسف: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾، وقوله عزّ وجلّ في داود: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ (ص: 24)، وقوله في نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾ (الأحزاب: 37)؟ فقال مولانا الرّضا عليه السلام: ويحك، اتّق الله، ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش، ولا تتأوّل كتاب الله عزّ وجلّ برأيك، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ (آل عمران: 7). أمّا (الآية الأولى) فإنّ الله عزّ وجلّ خلق آدم حجّةً في أرضه وخليفةً في بلاده، لم يخلقه للجنّة، وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض (…)، فلمّا أهبط إلى الأرض وجُعل حجّة وخليفة، عُصم بقوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 33). وأمّا (الثانية) فإنّما ظنّ أنّ الله عزّ وجلّ لا يضيّق عليه رزقه، ألا تسمع قول الله عزّ وجلّ:﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ (الفجر: 16)، أي ضيّق عليه، ولو ظنّ أنّ الله تبارك وتعالى لا يقدر عليه لكان قد كفر. وأمّا (الثالثة) فإنّها همّت بالمعصية، وهمّ يوسف بقتلها إن أجبرته، لعظم ما داخله، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ﴾ يعني القتل، ﴿وَالْفَحْشَاء﴾ (يوسف: 24) يعني الزنا. فبكى عليّ بن الجهم، وقال: يا ابن رسول الله، أنا تائب إلى الله عزّ وجلّ أن أنطق في أنبياء الله عزّ وجلّ بعد يومي هذا إلّا بما ذكرته”(4).

2. حواره مع صاحب الجاثليق(5): عن صفوان بن يحيى قال: “سألني أبو قرة صاحب الجاثليق أن أوصله إلى الرّضا عليه السلام فاستأذنته في ذلك عليه السلام، فلمّا دخل عليه (…) ثمّ قال: أصلحك الله، ما تقول في فرقة ادّعت دعوى فشهدت لهم فرقة أخرى معدلون؟ قال: الدعوى لهم، قال: فادّعت فرقة أخرى دعوى فلم يجدوا شهوداً من غيرهم، قال: لا شيء لهم، قال: فإنّا نحن ادّعينا أنّ عيسى روح الله وكلمته ألقاها فوافقنا على ذلك المسلمون، وادّعى المسلمون أنّ محمّداً نبيّ فلم نتابعهم عليه وما أجمعنا عليه خير ممّا افترقنا فيه، فقال له الرّضا عليه السلام: (…) إنّا آمنّا بعيسى بن مريم عليه السلام روح الله وكلمته الذي كان يؤمن بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ويبشّر به ويقرّ على نفسه إنّه عبد مربوب، فإن كان عيسى الذي هو عندك روح الله وكلمته ليس هو الذي آمن بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم وبشّر به، ولا هو الذي أقرّ لله عزّ وجلّ بالعبوديّة والربوبيّة، فنحن منه براء، فأين اجتمعنا؟!”(6).

3. حواره مع أرباب المذاهب الإسلاميّة: لمّا حضر الإمام عليّ بن موسى d مجلس المأمون وقد اجتمع فيه جماعة علماء أهل العراق وخراسان، فقال المأمون: “أخبروني عن معنى هذه الآية: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ (فاطر: 32)، فقال العلماء: أراد الله الأمّة كلّها. فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرّضا عليه السلام: لا أقول كما قالوا، ولكن أقول: أراد الله تبارك وتعالى بذلك العترة الطاهرة عليهم السلام، وقال المأمون: وكيف عنى العترة دون الأمّة؟ فقال الرّضا عليه السلام: لو أراد الأمّة لكانت بأجمعها في الجنّة، لقول الله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر: 32)، ثمّ جعلهم في الجنّة، فقال عزّ وجلّ: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ (فاطر: 33)، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم، ثمّ قال الرّضا عليه السلام: ثمّ الذين وصفهم الله في كتابه فقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب: 33)، وهم الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم: (إنّي مخلّف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيّها الناس، لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم)”(7).

4. حواره مع متكلّمي الفرق الإسلاميّة: عن الحسن بن الجهم قال: “حضرت مجلس المأمون يوماً وعنده عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام، وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة، فسأله بعضهم فقال له: يا بن رسول الله، بأيّ شيء تصحّ الإمامة لمدّعيها؟ قال بالنصّ والدليل، قال له: فدلالة الإمام فيمَ هي؟ قال: في العلم واستجابة الدعوة، قال: فما وجه إخباركم بما يكون؟ قال: ذلك بعهد معهود إلينا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟ قال عليه السلام له: أما بلغك قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (اتّقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور الله)؟ قال: بلى، قال: وما من مؤمن إلّا وله فراسة ينظر بنور الله على قدر إيمانه ومبلغ استبصاره وعلمه، وقد جمع الله الأئمّة منّا فرقة في جميع المؤمنين، وقال عزّ وجلّ في محكم كتابه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ (الحجر: 75)، فأوّل المتوسّمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ أمير المؤمنين عليه السلام من بعده، ثمّ الحسن والحسين والأئمّة من ولد الحسين عليهم السلام إلى يوم القيامة، فنظر إليه المأمون، فقال: يا أبا الحسن، زدنا ممّا جعل الله لكم أهل البيت، فقال الرّضا عليه السلام: إنّ الله عزّ وجلّ أيّدنا بروح منه مقدّسة مطهّرة، ليست بملك، لم تكن مع أحد ممّن مضى، إلّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مع الأئمّة منّا تسدّدهم وتوفّقهم، وهو عمود من نور بيننا وبين الله عزّ وجلّ”(8).

في الختام، يتبيّن من احتجاجات الإمام الرّضا عليه السلام قوّة موقفه وصلابته وأحقيّته في الحكم في مواجهة المأمون وأزلامه، الذين سرعان ما كانت ترتدّ مكائدهم وضغائنهم عليهم.

1. ابن شهر آشوب، مناقب آل ابي طالب، ج 3، ص 469.
2. أعلام الهداية، ج 10، ص 246.
3. المصدر نفسه، ج 1، ص 186.
4. الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 150 – 153.
5. الجاثليق هو الرئيس أو المشرف على الأساقفة لدى بعض الطوائف المسيحيّة.
6. الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرّضا عليه السلام، ج2، ص254.
7. الشيخ الصدوق، مصدر سابق، ص 615 – 616.
8. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 134.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل