من الطبيعي أن انتشار التعليم يهذب النفس، ينشر الحضارة، يرتقي بالإنسان، ينهض بالأمم، وأن التقدم العلمي يمهد الأرض لكل ذلك، يعمل على راحة البشر، يدعم التواصل، يحسن الإنتاجية، يساعد على التقدم والتطور، التعليم ثقافة تواجه الجهل، كما أن العلم نور في مواجهة الظلام، الإنفاق العالمي على العلم والتعليم ربما هو الأكبر في موازنات الدول على الإطلاق، البحث العلمي تخطى كوكب الأرض إلى كواكب أخرى، الرسائل والأبحاث العلمية أصبحت الشغل الشاغل للمجتمعات المتقدمة والنامية على السواء، اهتمام الأسر بتعليم أبنائها يفوق اهتمام الحكومات، الهدف مشترك وهو التحضر والتقدم والتطور.
الغريب في الأمر أن الثورة الصناعية والعلمية والتعليمية التي شهدها العالم في القرن الأخير من الألفية الثانية (1900 – 2000) تزامنت مع سقوط العدد الأكبر من الضحايا في الحربين العالميتين الأولى والثانية بشكل خاص (عدد يصل إلى 80 مليون قتيل)، واستمر هذا الوضع في الألفية الجديدة بسقوط ملايين القتلى في أنحاء متعددة، من فيتنام وكمبوديا، إلى العراق وأفغانستان، ودول الاتحادين اليوغوسلافي والسوفييتي السابقين، ورواندا وبوروندي، وحتى سوريا واليمن وأوكرانيا، وقبل كل ذلك حروب التحرر في مواطن عديدة، أبرزها جنوب إفريقيا والجزائر في إفريقيا، وفلسطين في آسيا، التي تعد آخر بؤرة تحرر مشتعلة حتى الآن.
العكس تمامًا
كان من الطبيعي أن يرتقي التعليم بالأمم، وتتراجع المواجهات المسلحة، وتفرض الحوارات المتحضرة نفسها على مائدة المفاوضات، ويلجأ المتنازعون إلى القوانين والمواثيق الدولية والمحاكم الجنائية كملاذ آمن للحصول على الحقوق، وتتبادل الأمم الابتكارات العلمية والإنجازات الطبية من أجل حياة أكثر رفاهية وصحة أكثر استقرارًا، وأن يعمل الجميع من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة، واستخدام العلم لتوفير حياة أفضل للأطفال، وتحسين الاقتصاد من أجل حياة أكثر رحابة للمسنّين، وتطوير القوانين من أجل راحة المرأة، ورفع شعار “الحياة الكريمة” للإنسان عمومًا أينما كان، في كل القارات دون تمييز ودون استثناءات.
ما حدث هو العكس تمامًا.. في ظل التقدم التكنولوجي والتطور العلمي لا يوجد إنسان آمن من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها، العنصرية عامل مشترك في كل دول العالم المتقدم بشكل خاص، الجريمة تبدأ من إطلاق نار بشكل عشوائي على تلاميذ إحدى دور الحضانة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتصل إلى حد إطلاق النار على المصلين داخل أحد المساجد في نيوزيلاند، العنصرية تبدأ من حرق المصحف الشريف في السويد، مرورًا برسوم كاريكاتورية بغيضة في فرنسا ومنع عباءة المسلمات، وانتهاءً بمنع مظاهرات في بريطانيا تدين الاحتلال الإسرائيلي.
كل الجرائم
السلاح المستخدم في كل الجرائم هو نتاج التقدم العلمي والأبحاث والدراسات، كما أن الاضطهاد والظلم والعنصرية نتاج قوانين وضعية من صنع الإنسان وبرلماناته وحكوماته التي تحكمها عقليات لم تتحرر قط من التخلف والجهل؛ فرغم ما حصلت عليه من ساعات وسنوات طويلة من التحصيل العلمي والمعرفي، فإنها كما يبدو لم تستطع أن تغير فيها الكثير، وهو ما حذر منه الرسول عليه الصلاة والسلام، حينما قال لأحد الصحابة: “إنك امرؤ فيك جاهلية”؛ لأنه قال لصحابي آخر: يا ابن السوداء!
وهو ما يؤكد أن القوانين الوضعية في الألفية الثالثة لم ترق بأي حال من الأحوال إلى القوانين السماوية التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي أجملها القرآن الكريم في وصف الله سبحانه وتعالى لنبيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وأشار إليها سبحانه في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}.
قد يكون ذلك الصراع الحاصل، أو ذلك التناحر الذي لا يتوقف، أمرًا طبيعيًّا، أشار إليه قول الله سبحانه وتعالى {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ}، وقوله سبحانه {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كثيرًا}، إلا أن ما يجري على الأرض يؤكد في كل الأحوال أن العقل البشري ما زال قاصرًا، وأن الطمع البشري ما زال طاغيًا، وأن الجهل البشري ما زال متفشيًا؛ ذلك أن الدماء تسفك على مدار الساعة بإنفاق مادي منقطع النظير، في الوقت الذي تعاني فيه معظم الأوطان من أزمات مال وماء وغذاء ودواء ووقود وغير ذلك كثير، كانت هي الأولى بالإنفاق والمساعدة لو كان التحضر حقيقيًّا والتقدم غير مزيّف.
حروب ما بعد التحضر
يجب أن نعترف بأن حروب ومواجهات ما بعد التحضر المزعوم تحصد الآن الآلاف وعشرات الآلاف من الأرواح في يوم واحد، بل في ساعة واحدة، وربما في دقائق معدودة، مقارنة بحروب ومواجهات أزمنة وعصور الجاهلية، التي كانت تدار بالسيوف والعصي، أو حتى بالخيول والسهام، يجب أن نعترف بأن قيودًا أخلاقية ومجالس عرفية كانت تحكم معظم بقاع العالم في أزمنة ما قبل التحضر، كما أن علاقات تعاون ومصاهرة سجلها التاريخ بين الحضارات المختلفة فيما قبل التقدم المزعوم الآن، على الرغم من الصراعات التي كانت قائمة.
ربما لا يصدق العقل البشري أن المعنيين بالتقدم العلمي الآن يستخدمون معاملهم وأبحاثهم في تطوير فيروسات وميكروبات تغزو العالم بهدف حصد أكبر قدر من أرواح البشر، بحجة الحد من عدد سكان العالم، وأن أبحاثًا ومعامل أخرى تعمل على مدار الساعة لتطوير القذائف والقنابل والطائرات الحربية والبوارج البحرية، والسلاح النووي والهيدروجيني والفوسفوري، وغير ذلك من أدوات الدمار، على اعتبار أن أسلحة الدمار الحالية لا تكفي لتنفيذ المهمات الشيطانية، وكل ذلك من فعل الدول التي تزعم التطور والتحضر والتقدم، وتصدّع رؤوسنا طوال الوقت بحقوق الإنسان وحقوق الحيوان، وربما الجماد أيضًا.
الأمر بالفعل أصبح يحتاج إلى إعادة نظر في تعريف كل المصطلحات من جديد؛ ذلك أننا ونحن ندري أو لا ندري نعيش عصور الجاهلية من أوسع الأبواب، جاهلية الكيل بمكيالين في التعامل مع الأحداث كما هو الحال مع القضية الفلسطينية بشكل خاص، جاهلية إمداد المعتدي بالسلاح والمال لارتكاب مزيد من المجازر في حق المدنيين الأبرياء، جاهلية الإنفاق الكبير على أدوات القتل والدمار، جاهلية التكسب والتربح من صناعة الدواء حتى أصبحت التجارة الأكثر ربحًا في العالم بعد تجارة السلاح، وهي في حقيقة الأمر تجارة بالمرضى والمحتاجين، جاهلية تجارة الرقيق الأبيض، جاهلية الاتجار بالمخدرات، جاهلية الغش والرشوة والتزوير والفساد والمثلية وزنا المحارم والربا والظلم واستغلال الأطفال، وغير ذلك كثير.
بالفعل يجب أن نعترف بأن شقاء البشرية تزايد وأصبح أكثر انتشارًا، بفعل هؤلاء الذين يزعمون التحضر.
مع الوضع في الاعتبار أننا في عالمنا العربي والإسلامي بشكل خاص، أصبحنا الأكثر معاناة من ذلك الشقاء، ليس لأننا مستهدفون به فقط، ولكن لأننا لم نتعامل مع ديننا منهاجًا، ولا مع قرآننا دستورًا، ولا مع سنة نبينا أسلوب حياة، وأذكر هنا ما كان يردده الراحل الدكتور إبراهيم إمام، عميد كليات الإعلام من أن مقياس الحضارة في الدول الإسلامية هو بمدى تمسكها بدينها، أما وقد تخاذلنا، فحق علينا الشقاء {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} بنص القرآن الكريم، وتداعت علينا الأُمم “كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها” بنص الحديث الشريف، ولله الأمر من قبل ومن بعد.