الربط بين الصبر والنصر من الأمور الواضحة التي يدركها الإنسان بالوجدان، فمن لا يصبر على تحمّل التضحيات لا يمكن أن ينال ما يريد. وقد التفت الإنسان بحسّه الفطريّ وتجاربه العاديّة إلى مثل هذا الأمر، وامتلأ الشعر الحكميّ والأدب وكتب الأخلاق على وجه العموم بالحديث عن الصبر وتأثيره في وصول الإنسان إلى ما يبتغيه. يقول الشاعر وإنّ من الشعر لحكمة: “لا بدّ دون الشهد من إبر النحل”. ومن الحكم المشهورة في الأدبيات الإسلامية قولهم: “من صبر ظفر فاصبر تظفر”. وقد تعرّضت السنّة لهذا الربط وورد في بعض الأخبار والأحاديث ما يكشف عن الربط بين الأمرين، ومن ذلك: ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: “لا يعدم الصبور الظفر، وإن طال به الزمن”[1]. وقد اشتهر على الألسن نسبة قولٍ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو: “إنما النصر صبر ساعة”. ولكن يبدو بعد البحث والتحقيق أنّ النسبة غير صحيحة، ولكن لا تبعد صحّة المضمون. ومن الآيات التي تؤكّد هذا المعنى وتصدّقه:
– قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[2]. وجه دلالة الآية على الربط بين الصبر والنصر أنّ الله يعد المؤمنين بالفلاح ويرجّيهم إيّاه إن هم حقّقوا الشرط وهو الصبر والثبات.
– قال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾[3]. وردت هذه الآية في سياق الحديث عن الجهاد والقتال في سبيل الله، وختمت ببشارة الصابرين. والأقرب في مضمون هذه البشارة والأكثر انسجامًا مع سياق الآيات الكريمة[4] أن يكون النصر والظفر ونيل ما يسعون في سبيل الحصول عليه: أعاد ذكر الصابرين ليبشّرهم… فأمر تعالى نبيّه أوّلًا بتبشيرهم، ولم يذكر متعلّق البشارة لتفخيم أمره فإنّها من الله سبحانه فلا تكون إلا خيرًا وجميلًا. وقد ضمنها ربّ العزّة”[5].
– قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[6]. وهذه الآية كسابقتها تدعو إلى الاستعانة بالصبر لنيل المبتغيات، وهي عامّة ولو شكّك أحدٌ في عمومها فإنّه يكفي للربط بين الصبر والنصر قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ومن كان الله معه ومحيطًا به إحاطة قيوميّة على حدّ تعبير أحد المفسّرين لن يكون إلا منتصرًا.
التوكّل
التوكّل على الله تعالى من الفضائل الأخلاقيّة في منظومة القيم الأخلاقيّة الإسلامية. وهذا الأمر لا يخفى على من له أدنى اطّلاع على الأخلاق الإسلاميّة. وما يعنينا هنا هو الكشف عن الصلة بين التوكّل على الله وبين النصر.
يقول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾[7]. حسبه أي يكفيه ويغنيه عمّا ومن سواه. تقرّر هذه الآية مبدأً عامًّا هو أنّ التوكّل على الله تعالى يجعل الإنسان في غنًى عن سواه. ومن الأمور التي ينبغي التوكّل على الله تعالى فيها وقطع الطمع في غيره الحرب والقتال وخاصّةً عندما يكون القتال في سبيل الله.
قال الله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ﴾[8]. ودلالة هاتين الآيتين أوضح من دلالة سابقتهما وذلك أنّ الآية الأولى منهما تتحدّث عن الاقتراب من الفشل وإظهار العجز، ثم تدعو المؤمنين إلى التوكّل على الله. وتشير الآية الثانية إلى النصر الذي أحرزه المسلمون في بدرٍ، ولهذا السياق دلالته على الربط بين التوكّل والصبر.
قال الله تعالى: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[9]. هذه الآية تقلب المشهد ولكنّها لا تعدم الدلالة على الربط بين الأمرين، فإنّها بدل أن تدعو إلى التوكّل طلبًا للنصر، تدعو إلى التوكّل بالاعتماد على مبدإٍ عامٍّ وحقيقة كونية كبرى هي حقيقة أنّ من ينصره الله فلن يُغلب، ومن يخذله الله فلن يذوق طعم النصر، وتبني على هذه الحقيقة المؤكّدة الدعوة إلى فضيلة التوكّل والاعتماد على الله تعالى.
وبكلمة عامّةٍ التوكّل على الله يرفع منسوب الثقة ويشدّ العزيمة فمن يرَ الله ظهيرًا له ومعتمدًا، يكنْ أقدر على اتّخاذ المواقف الحاسمة في الأوقات الصعبة. ومن المعلوم أنّ كثيرًا من الهزائم التاريخيّة سببها ضعف في اتّخاذ القرار في الوقت المناسب، وكثيرًا من الانتصارات سببها ارتفاع منسوب الثقة بالمستند والمعتمد، وأيّ رهانٍ يمكن أن يكون أقوى من الرهان على الله والاستناد إلى ما عنده؟
النصر الإلهي، سنن النصر في القرآن الكريم، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] نهج البلاغة، باب الحكم، ج 4، الحكمة 153.
[2] سورة آل عمران، الآية 200.
[3] سورة البقرة، الآية 155.
[4] خاصّة أنّ هذه الآيات الخمس (153-157) من سورة البقرة لها سياق واحد كما يرى بعض المفسرين. انظر: الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 343.
[5] الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 353.
[6] سورة البقرة، الآية 153.
[7] سورة الطلاق، الآية 3.
[8] سورة آل عمران، الآيتان 122 و 123.
[9] سورة آل عمران، الآية 160.