Search
Close this search box.

الإمام الحسن عليه السلام: قائدُ قلبٍ وثورة

الإمام الحسن عليه السلام: قائدُ قلبٍ وثورة

الشّيخ علي حمادي

كانت الأرض تنتظر مواقيت أسرار الوجود، والسماء تنتظر أحد الأسماء التي أنبأها آدمُ الملائكة ذات سجود. 

استقرّ المهدُ المُنزَل من عالم الأبراج، في بيت النبوّة والسراج. هنالك ابتسم أحمد، وقد رأى الآية الكبرى وأوّل مصاديق الكوثر. 

“الله أكبر”، أذّن وأقام وهو يعقّب: “هنا خلاصة الحِكم والفطَن”. ثمّ دنا وحنا، وقبّل نورَ السنا، ولمعت دمعة الحبور في طرف عينه ومَزَن، وهو يهمس لمولود السُّنن: “أشبهت خلقي وخُلُقي، بُنيّ حسن، بُني حسن”.

•عناية خاصّة
ظهرت العناية النبويّة بالابن الأوّل لعليّ وفاطمة عليهما السلام منذ اللحظة الأولى، بل قبل الولادة. هذه العناية الخاصّة أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من خلالها ربط المجتمع الإسلاميّ عاطفيّاً وفكريّاً وعقائديّاً بأقرب الناس إليه وأشبههم به. ومن الطبيعيّ أن نجد ملامح العناية والتربية المحمّديّة في فكر الإمام عليه السلام وسلوكه القياديّ في المجتمع الإسلاميّ في أشدّ اللحظات حساسيّة ومصيريّة على الأمّة، وهو الذي أعطى كلّ وجوده وماله وجهده في سبيل صلاحها والمجتمع. وقد تعرّض للاعتداءات والإهانات المتكرّرة نتيجة ذلك، ولكنّه كريم أهل البيت عليهم السلام، الذي ظلّ يعطي حتّى الرمق الأخير.

كان قدَر إمامنا المظلوم عليه السلام أن يواجه الانحراف الأكبر والأخطر على الساحة السياسيّة في المجتمع الإسلاميّ، بلحاظ ما كان يضمره ذلك الانحراف من ضرب عمق الدين الحنيف ومضمونه. وكان الأمر يتطلّب قائداً يمتلك صفات القيادة الإيمانيّة والقيميّة، ويرفع قواعد الفطرة، ويزرع مبادئ الحقّ، حتّى لو كان في وادٍ غير ذي زرع، فكان الحسن عليه السلام.

•الشخصيّة القياديّة
يمكن معرفة شخصيّة الإمام عليه السلام السياسيّة والقياديّة من مواقفه وخطبه والرسائل المتبادلة مع العدوّ وغير ذلك من أمور، ففيها تظهر شخصية القائد الحكيم والبطل الشجاع المليء بالقوة والعنفوان الرافض للباطل؛ فهو الذي جمع الخبرة السياسية والقيادية والعسكرية طوال حياته، فقد شارك في جميع الحروب مع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام وأهمّها الجمل وصفين والنهروان فضلاً عن حربه الضارية ضد معاوية. وخلال فترة إمامته عيّن الولاة، ونظّم أمور الجيش الجريح الخارج من حروب عديدة أيام أبيه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان حضوره قوياً باهراً رغم كل التضييق، بحيث ازداد مقام الإمام المعنوي والعلمي والروحي في حياة والناس وقلوبهم، وهذا أكثر ما كانت تخشاه السلطة المعادية. وللإمام مواقف عديدة في حياة أبيه وفي حياته تُظهر صلابته وعدم مداهنته للحاكم الظالم. فقد ودّع مع أبيه وأخيه الحسين أبا ذر الغفاري حين نفاه الخليفة الثالث رغم قرار السلطة الحاكمة بمنع التوديع. وهو الذي رفض مصاهرة معاوية الذي تقدّم لخطبة ابنة أخته زينب بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد. والأهم أنه أفشل كل محاولات معاوية لخداع الناس ومحاولة تزوير شرعيةٍ ما لتبرير استيلائه على الخلافة.

•لا خير فيك
ومن مواقفه عليه السلام ما يظهر من هذا الحوار الذي جرى بينه وبين معاوية الذي قال للإمام الحسن عليه السلام: أنا أخير منك يا حسن، قال عليه السلام: وكيف ذاك يا بن هند؟ قال: لأن الناس قد أجمعوا عليّ ولم يجمعوا عليك، قال عليه السلام: “هيهات هيهات لشرّ ما علوت، يا بن آكلة الأكباد، المجتمعون عليك رجلان: بين مطيع ومكره، فالطائع لك عاص لله، والمكره معذور بكتاب الله، وحاشا لله أن أقول: أنا خير منك، فلا خير فيك، ولكن الله برّأني من الرذائل كما برّأك من الفضائل”(1). وكان الإمام عليه السلام قد دعا معاوية في إحدى الرسائل إلى الدخول في ما دخل به الناس، وأن يترك البغي ويحقن الدماء، وهدّده بالقتال إن أبى ذلك. ولكنّ معاوية أبى وسار بجيشه لمنازلته عليه السلام.

•القائد الصبور الحكيم
بعد الصلح، جاء وفد من الكوفة يطلبون من الإمام عليه السلام أن ينقضَ الصلح ويذهب إلى الحرب؛ باعتبار أنّ معاوية أخلّ بالشروط، غير أنّ الإمام بيّن لهم بأسلوبه الحسن أهمية البصيرة في تلك المرحلة واتباع استراتيجية الصبر مع الاستعداد للقيام في الزمان المناسب حين تتوفر الظروف. وهذا يشير إلى حكمة الإمام أولاً وإلى أسلوب الإدارة الإقناعية وعدم اتّخاذ القرارات الحماسية والانفعالية، التي يجب أن تكون منسجمةً مع الأهداف الكبرى الواحدة التي سعى لها كل الأئمة عليهم السلام.

•زمن التعقيد
إذا كانت الإمامة والقيادة في الإسلام هي توجيه البشر نحو نظام الحقّ ومجتمع القيم، ومواجهة السلطة الفرعونيّة التي تقود الناس نحو القيم الشيطانيّة، فيظهر من قيادة الإمام عليه السلام القيَميّة والربّانيّة أنّه كان حازماً وشجاعاً، ومنطلقاً من الدافع الدينيّ الغيبيّ والباعث الإلهيّ المتمثّل بحفظ الإسلام. يقول الإمام السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله عن ذلك: “عندما تلخّصون الأمر، سترون أنّ عمل الإمام الحسن عليه السلام كان له المضمون والمعنى نفسه الذي كان لعمل أمير المؤمنين والإمام الحسين وجميع الأئمّة عليهم السلام؛ أي المقاومة بوعي، وإدراك التكليف والصمود. لقد أقدم الإمام الحسن عليه السلام على إحدى أجرأ الخطوات من أجل النهوض بهذا التكليف؛ فالأعداء كانوا هم فقط من يطعنون الأنبياء، لكنّ التعقيد في عمل الإمام الحسن عليه السلام وحساسيّة الموقف تمثّلا في أنّ الأصدقاء كانوا يطعنونه أيضاً. لقد كان من أصحابه من لا يدركون عمله عليه السلام وموقفه ويقولون له: (يا مذلّ المؤمنين)، لكنّه صبر”(2).

•الإمام “الزكيّ”
لقد جمع الإمام عليه السلام في ظلّ كلّ التعقيد الذي ساد في عصر أبيه وحمل إرثه طوال مدّة إمامته، والمؤامرات التي حيكت في الداخل والخارج، ذخيرةَ الصبر والتقوى والإخلاص، وحشد لها بصيرةً ثاقبة وروحاً قياديّة متوهّجة، وفكراً نيّراً اكتشفه الناس مع مرور الزمن، ففهمنا أكثر أقوال سيّد البشر في حقّ سبطه الفدائيّ.

لقد تجلّت القيادة في شخصيّة “الزكيّ” بكلّ أبعادها: الإمامة في بُعدها الروحيّ والمعنويّ، والقدرة على تحديد الهدف والاتّجاه ومعرفة التكليف في بُعدهما الفكريّ والدينيّ، وكذلك التأثير في الآخرين وبثّ العلم والسلوك المُلهِم في بُعدهما الاجتماعيّ، وأيضاً الشجاعة والمواجهة في بُعدهما العسكريّ، علاوةً على الوعي وضبط النفس في بُعدهما السياسيّ. لقد كان يملك كلّ مقوّمات القيادة وصفاتها، باستثناء البيئة التي كانت متذبذبة ومتخاذلة إلّا ما ندر. ولكنّ الإمام عليه السلام أدّى مهمّته القياديّة ورسّخ السنن المحمّديّة كما كان مقرّراً منذ لحظة ولادته.

من هنا، يمكن القول بكلّ يقين إنّ أهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام قد رسمَها السبط الأوّل في كلّ مراحل المواجهة وصولاً إلى الشهادة. إنّه الكربلائيّ الأوّل، وشهيد نهضة عاشوراء قبل أن تبدأ.

1.بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 44، ص 104.
2.من كلمة للإمام السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله بتاريخ 7/6/1985م.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل