Search
Close this search box.

الحجاب سلوكٌ إلى الله

الشّيخ د. محمّد شقير*


كيف نفهم الحجاب؟ وكيف نعي فلسفته؟

ثمّة نقطتان ترتبطان بالإجابة عن هذا السّؤال؛ الأولى: هي الجانب الفقهيّ؛ لنحدّد ما يقوله حول حدود الحجاب: على مَنْ يجب الستر؟ عمَّنْ يجب أنْ تتستّر المرأة؟ ما الّذي يجب أنْ تستره؟ أمّا النقطة الثّانية، فهي مع إضافة المفاهيم والقيم والأهداف ذات الصّلة بقضيّة الحجاب.

وبهذا، نتمكّن من فهم منظومة الحجاب شاملة الحدود الفقهيّة والقيم والمفاهيم، منظومة لها أبعاد متعدّدة، لا يمكن الفصل بينها، وإلّا، فسيترتّب على الأمر العديد من النّتائج السّلبيّة، على مستوى الفهم والوعي، والفعل والممارسة أيضاً.

* الفرق بين الستر والحجاب
يجدر في البداية توضيح الفرق بين مفهومَي السّتر والحجاب؛ فالحجاب هو ذلك السّتر الّذي يؤدّي إلى فصل كامل بين النّاظر والمنظور إليه، بين الرّائي والمرئيّ، مثلاً: يتكلّم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن الشّمس الّتي تغيب: ﴿حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ (ص: 32)، لماذا ذكرت الآية الحجاب؟ لأنّ الفاصل لا يسمح بأيّ رؤية على الإطلاق لهذه الشّمس. وعندما يتكلّم القرآن الكريم عن نساء النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، يستخدم أيضاً تعبير الحجاب: ﴿فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ (الأحزاب: 53)، أي لخصوصيّة نساء النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يجب الفصل الكامل. ولكنّ الفقهاء، عندما تكلّموا عن الحجاب، استخدموا تعبير السّتر وليس الحجاب؛ فنجد في متون الكتب عبارات: أحكام السّتر، حدود السّتر الواجب، إلى ما هنالك من تعابير في هذا الإطار.

إذًا، ثمّة فرق بين السّتر والحجاب؛ فالأوّل هو نوع من إخفاء لا يؤدّي إلى الفصل الكامل، بينما الثاني هو ستر كامل؛ بحيث يختفي المستور تماماً خلف حجابه. ولا شكّ في أنّ لانتقاء التّعبير دلالته في هذا المقام؛ فلو كان هدف الدّين أن تجلس المرأة في المنزل، بحيث يكون الفصل كاملاً بينها وبين الرّجال والمجتمع، لاستُخدم تعبير الحجاب وليس السّتر.

وإذا كان المراد أنْ تلتزم المرأة أو الفتاة الحدود الشرعيّة للباس من دون أن تنعزل عن المجتمع، ودون أن تحتجب عنه، عندها، يُستخدم تعبير السّتر. ولكن، بناءً على المتعارف، سنستعمل تعبير الحجاب، وإن كنّا نقصد به ذاك المعنى.

* الحجاب نصيرُ العقل
إنّ فلسفة الحجاب منعٌ لغلبة البُعد الحيوانيّ على البُعد الإنسانيّ والعقليّ في شخصيّة الإنسان. هي في جوهرها موقف يغوص في أعماق النّفس الإنسانيّة لإعلاء شأن العقل على هوى النّفس، بحيث تتطلّب سفوراً للعقل وإظهاراً له. فإنّ رمزيّة الحجاب تتجاوز الجانب الشّكليّ لتصل في تعبيرها إلى واقع النّفس الإنسانيّة، وطبيعة الصّراع الدّائر فيها بين الشّهوة والعقل، أو بين البُعدَين الحيوانيّ والمعنويّ، أو بين الجانبَين المتسافل والمتعالي؛ بحيث يصبح الحجاب نصيراً للعقل وللبُعد المعنويّ وللجانب المتعالي على الشّهوة.

* الحجاب يُظهر الأرقى
الإنسان يغرق في الدّنيا وتأسره المادّة، فكيف يصل إلى الله سبحانه وتعالى من خلال السّتر؟ هنا، يأتي دور هذا الأخير، ليحمل، في فلسفته وغايته، رسالة مفادها أنّ الجسد الماديّ، بمفاتنه، لا يصحّ أن يحتكر كلّ الهمّ والاهتمام، وأنّه ليس من الصّحيح أن يحبس الإنسان فكره ونظره فيه وفي محاسنه؛ بل يجب أن يصرفه عنه إلى بُعدٍ آخر في شخصيّته، وهو البُعد المعنويّ المتمثّل بالجمال الروحيّ، والّذي يرتبط بوعي الفرد وإيمانه وإرادته، وهذا هو الجمال الباقي، الّذي لا يفنى بفناء الجسد، ولا يفقد رونقه مع طول العمر، ولا يشيخ مع مرور السّنين؛ بل على العكس من ذلك، قد يزداد رونقاً وتألّقاً وسطوعاً، كلّما تقدّم المرء في العمر، هذا إذا ما استفاد من سنيّ عمره بالعناية بجماله الروحيّ وحسنه المعنويّ. وبهذا، يصبح الحجاب حافزاً للعناية أكثر بعالم المعنى وقيمه، وبعالم الرّوح والنّفس.

وهذا يتطلّب أيضاً من الفرد ضرورة إيجاد نوعٍ من التّوازن في الاهتمام بين البُعدين المادّيّ والمعنويّ. أي أن تكون عنايته بالبُعد المادّيّ سبيلاً للعناية بذاك المعنويّ، وعنايته بالجسد وسيلةً ليكون طريقاً إلى سلامة الرّوح.

* الحجاب وصناعة جمال الباطن
إنّ طاعة الله بستر جمال البدن، تؤدّي إلى صناعة جمال النّفس والرّوح، وتفضي إلى أن يصبح القلب ناصعاً، ومنيراً، وجميلاً. في حين أنّ من يهتمّ بجمال البدن على حساب الرّوح ومنفصلاً عنها، ويجعل من مفاتن البدن أداة للشّيطان ولمعصية الله تعالى؛ فإنّه يعمل على تشويه نفسه ويجعل قلبه قبيحاً ومظلماً، ويخسر في الدنيا الجمالَين معاً، ويجعل من جمال بدنه سبيلاً إلى جهنّم، وأداة في يد الشّيطان؛ فيخسر بالتالي جماله الرّوحي، ثمّ ما يلبث -بعد قليل- أن يفقد جماله الظاهريّ، عندما يشيخ ويهرم، ويُردّ إلى أرذل العمر، ثمّ يُدفن لاحقاً في التّراب، فيتلاشى بدنه.

* في الستر مخالفة الهوى
إنّ اتّباع الميل إلى الظّهور والبروز والتّبرّج، يُبعد عن الله تعالى. أمّا إذا عملت المرأة على ستر ما أوجب الله تعالى أن تستره حبّاً به تعالى وطاعة له، فإنّ هذه المخالفة للهوى، تصبح من أهمّ العوامل الّتي تؤدّي إلى السّلوك إلى الله سبحانه وتعالى، لأنّ أهمّ ما يؤدّي إلى القُرب منه سبحانه هو طاعته، ومخالفة الهوى، والسّير إليه بخطى الجمال الحقيقيّ (جمال الرّوح)، طاعةً وعبادةً وستراً، فقد ورد في الحديث القدسيّ: ”يؤثر هواي على هواه“(1). ففي هذا السّياق، يصبح العمل منتجاً أكثر، لأنّ العبد يخالف هواه ويجاهد رغباته أكثر.

* لباس التّقوى
عندما يتحدّث القرآن الكريم عن بني آدم يقول: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ﴾ (الأعراف: 26)، إنّه يربط التّقوى باللّباس. وهو يريد من خلال هذا الرّبط الإشارةَ إلى وجود لباسَين: الأوّل هو لباس البدن الذي يستر مفاتنه، أمّا الثّاني فهو لباس التّقوى الذي يستر عورات النّفس وسوءاتها. يقول الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ (الأعراف: 26). فمن يمتلك التّقوى، لا بدّ من أن يمتثل لأحكام الله تعالى، سواءٌ في قضيّة الحجاب، أو في غيرها من القضايا الحياتيّة والإنسانيّة.

وعندما يتحقّق ستر الغرائز، فهذا يعني تجلّي سفور العقل؛ بمعنى ظهوره. أي أنّ العقل يأخذ مداه في تلك الشّخصيّة الّتي تعنَى بهذا الجانب. كذلك، عندما تُحجبُ المفاتن الظّاهريّة، فإنّ ذلك يستوجب إظهار الكمالات المعنويّة والأخلاقيّة.

هنا تأتي أهمّيّة التّقوى، وهي أن تغطّي على الشّهوات والغرائز؛ فتلجمها، وتضبطها، وتهذّبها، بطريقة تصبح فيها الغرائز تحت سلطان العقل، وفي ظلال الرّوح، وتحت تأثير البُعد المعنويّ السّامي؛ فيصبح العقل قائد الإنسان.

* دعوة إلى تحرير العقل
إذا أردنا أن نبني على هذه المقاربة على المستوى القيميّ الحضاريّ، فينبغي القول: إنّه إذا كانت الحضارة تحتاج إلى ترشيد العقل وسلامة النّفس من الموبقات والرّذائل، فإنّ في الحجاب دعوة إلى تحرير العقل من أسر الشّهوة، وإلى تحفيز النّفس على الطّهارة، وإعمارها بالتّقوى.

إنّ الحجاب يدعو إلى تحويل ميدان المجتمع إلى ساحة تغلب فيها العفّة والطهارة على الابتذال والتّنافس في إظهار المفاتن. ولا يخفى أنّ توفير البيئة الاجتماعيّة المناسبة سوف يسهم في التّأكيد أكثر على قيم العمل الصالح، والإنتاج المتوازن في جميع الميادين.

(*) أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة- عميد سابق لكليّة الدراسات الإسلاميّة في الجامعة الإسلاميّة في لبنان.
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يقول الله عزّ وجلّ: وعزّتي، وجلالي، وعظمتي، وكبريائي، ونوري، وعلوّي، وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواه على هواي إلّا شتّت عليه أمره، ولبست عليه دنياه، وشغلت قلبه بها، ولم أؤته منها إلّا ما قدّرت له».
(2) أصول الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 335.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل