الشهيد المهندس.. في القلب والذاكرة

الشهيد المهندس.. في القلب والذاكرة

هو من رفض أن يأخذ مبلغ ثلاثمائة مليون دينار، مجموع رواتبه التي تراكمت طيلة فترة تولّيه منصب نائب في البرلمان العراقيّ. لم يكن يقتني سيّارات فخمة، ولم يكن لديه مرافقون، ولا سيّارة مصفّحة، ولا طائرة خاصّة. رفض أن يطلَق عليه “رئيس الحشد الشعبيّ”؛ لأنّه كان يكره الألقاب والتوصيفات، بينما كان بالفعل الرئيس الحقيقيّ الذي قضى أكثر عمره خلف السواتر مع المجاهدين.

من ذاكرة مَن عايشه، ومن شوق مَن أحبّه، حكايا قصيرة عن الشهيد أبي مهدي المهندس..

الشهادة رزقٌ من الله

حلّ وقت صلاة الظهر في أحد الأيّام في غرب صحراء الموصل، حيث لا مكان للاحتماء من رميات العدوّ، فطلب الشهيد أبو مهدي المهندس من الشيخ الذي كان معهم أن يؤمّ بهم الصلاة، فأجابه الشيخ: “حاجّ، إنّ العدوّ يرمينا بالهاون، ولا نستطيع أن نحمي أنفسنا”! فتبسّم الشهيد وقال: “ليس أمامنا خيار آخر، إذ لا يوجد مكان آمن في هذه الصحراء. سنصلّي كما صلّى الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء!”. فقال الشيخ: “ولكنّ الموقف هنا مختلف. إنّها صواريخ وقذائف وليست سهاماً! وهناك قنّاص يتربّص بنا”. فردّ أبو مهدي: “إنّه لفخر أن يصيبنا صاروخ ونحن نصلّي! وإنّه لتوفيق عظيم أن نحظى بالصلاة والشهادة معاً. ما أعظمها من منزلة”! وهكذا، أدّوا الصلاة جماعةً، وما إن أنهوا وغادروا المكان، حتّى بدأت قذائف الهاون تتساقط حيث كانوا يصلّون، فقال الشهيد أبو مهدي: “ألم أقل لك إنّ الشهادة رزق وتوفيق من الله؟”.

فليُسقطوا الطائرات

في أحد أيّام المعارك في منطقة “تلول الباج”، وهي تقع بالقرب من منطقة “بيجي”، جاء آمر الفوج إلى الحاجّ أبو مهدي مسرعاً وهو يقول: “اخرجوا من هذا المكان بسرعة، فالعدوّ يسقط على مقرّاتنا قنابل يدويّة بواسطة طائرات صغيرة!”، فردّ الشهيد: “أتريدني أن أنسحب بسبب طائرة صغيرة تحمل قنابل؟! هذا مستحيل! انشر القنّاصين فوق أسطح المقرّات، وليسقطوها”، فحصل ذلك.

ماذا يتناول المجاهدون؟!

ذات يوم، حضر مسؤول إحدى المناطق، وأخبرَ الحاجّ أبا مهديّ أنّ العشاء جاهز، فسأله الحاجّ: “ما هو عشاؤكم؟”، فأجاب: “لقد أحضروا لنا السمك واللبن والخضراوات”، فقال الشهيد: “وماذا يتناول الإخوان الموجودون عند الساتر؟”، فكان الجواب: “إنّهم يحضّرون طعامهم الخاصّ”، عندها قال الحاجّ: “إذاً، نأخذ هذا الطعام ونتناوله معهم”! وبالفعل، توجّهوا بطعامهم إلى مكان المجاهدين، فوجدوهم يقلون البيض والبندورة على الحطب لعدم وجود الغاز لديهم! اقترب الحاجّ منهم، قبّل جباههم، ومسح التراب عن وجوههم. ثمّ بدأ يطعمهم بيده من الطعام الذي أحضره معه، فيما تناول هو ما كان يجهّزه الإخوان! فبكى أحد المجاهدين تأثّراً وهو يقول: “أنت كأبٍ لي يا حاجّ. إنّ ما تقوم به لا يقوم به والدي!”. فمسح الشهيد دموع الشابّ بيده، وقال له: “أنا أبوك وخادمك يا عزيزي ويا ولدي”!

فهم لا يُبصرون

أراد الشهيد أبو مهدي يوماً التوجّه إلى إحدى مناطق العمليّات مع أحد السائقين بواسطة سيّارة من نوع “بيك أب”، غير مصفّحة. وكانت لا تحمي حتّى من رشق الحجارة! فضلّ السائق طريقه، سالكاً طرقاً ترابيّة أوصلته إلى قرية تحت سيطرة داعش! على الفور، بدأ الحاجّ يتلو آية: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ (يس: 9)، ونظر إليهم بجرأة وشجاعة ولوّح بيده مُسلّماً، فاعتقدوا أنّهما منهم، عندها طلب من السائق أن يعود أدراجه بهدوء ودون أن يثير أيّ جلبة، إلى أن تمكّنا من مغادرة تلك القرية بأمن وسلام!

لست أفضل منهم!

في إحدى قرى غرب الموصل، حصل هجوم عنيف بالمفخّخات، استمرّ من منتصف الليل حتّى شروق الشمس، فطُلب من الحاجّ مغادرة المكان خشية أن يسيطر مقاتلو داعش عليه. فرفض الشهيد المغادرة قائلاً: “أنا لست أرفع شأناً من المجاهدين. ودمائي ليست أفضل من دمائهم. إذا قدّرت لي الشهادة، فهذا عزّ وفخر لي”. ثمّ راح يعمل على رفع معنويّات الإخوان ويحفّزهم وسط نداءات وهتافات معنويّة وعقائديّة، فأشرقت شمس يوم جديد على تقهقر العدوّ!

كأنّها معركة كربلاء!

كان الشهيد أبو مهدي في غرفة العمليّات برفقة بعض مسؤولي العتبات المقدّسة عندما سأله أحدهم: “حاجّ، متى ندخل منطقة البعاج والقيروان وضواحيها؟”، فردّ الحاجّ: “عند الفجر”. ثمّ سأله عن كيفيّة توزيع المحاور، فأجابه الشهيد: “من جهة اليمين فرقة العبّاس عليه السلام، بقيادة الشيخ ميثم الزيدي، ومن اليسار لواء عليّ الأكبر عليه السلام – العتبة الحسينيّة، ومن الأمام فرقة الإمام عليّ عليه السلام “. فقال الأخ: “إنّها معركة كربلاء وليست معركة الموصل! وكأنّ التاريخ يعيد نفسه!”. فتبسّم الشهيد قائلاً: “وهل لديك شكّ في أنّ هذه المعارك هي امتداد لمعركة الطفّ؟! هي كذلك، ولكنّها تختلف بأساليبها. لقد جئنا لخلاص الناس والأرض من إرهاب داعش”.

أفضل أوقات عمري

خلال اشتداد الاشتباكات في منطقة القادسيّة- تكريت ما بين قنص وهجوم من قِبل عناصر داعش، توجّه أحد المجاهدين إلى منطقة خطرة، وتوقف بسبب ثقب إطار سيارته، وإذ بسيّارة الشهيد تقترب منه. وفجأة، ترجّل الحاجّ من السيّارة، قبّله في جبهته كعادته، ثمّ قال له: “ماذا تفعل في هذا المكان الخطِر؟!”، فأجابه: “ولماذا أنت أيضاً هنا؟!”، أمسك بيد الشاب وأصعده معه في السيّارة وهو يقول: “لقد تقدّمتُ في السنّ، وأطمح أن أختم مسيرتي بحسن العاقبة. أمّا أنت، فلا زلت في مقتبل العمر، وأمامك فرصة لإكمال هذه المسيرة الشريفة. عندما كنت في سنّك، كنت أجاهد وأتعلّم وأستفيد من القادة، إلى أن جاء اليوم الذي استثمرت فيه كلّ هذه الخبرات المتراكمة في الدفاع المقدّس. إنّ أفضل أوقات عمري عندما أستنشق عبق تراب الجهاد”.

غطّوا صورتي!

في أحد المهرجانات، اعتلى الشهيد المهندس المنصّة الخاصّة بإلقاء كلمة له، فلاحظ وجود صورة كبيرة له وضعها القائمون على المناسبة مباشرةً خلف المنصّة. وعلى الفور، راح يسأل: “من الذي علّق هذه الصورة؟ لا أريدها أن تبقى، ضعوا عليها شيئاً”، فدار نقاش، ولكنّه أصرّ على إخفائها، فاستدعى المعنيّين بالمهرجان ملحّاً عليهم أن يغطّوا الخلفية. ولم يعتلِ المنصة حتى تمّت تغطيتها تماماً.

شهادة امرأة موصليّة

لم أكن أعرفكم قبل أن يأتينا أهل اللحى! كنت أسمع من أبي أنّكم عَبَدة للقبور والأوثان، وفرس مجوس! ولكن بعد أن أتى عربيّ نتن، معه آسيويّ تفوح منه رائحة الخنازير، وخلعوا حجاب أختي وزوجة أخي. أمام عينَي أبي الذي كان يتفاخر بأصولنا العربيّة السنيّة، كنّا أقرب أن نُساق سبايا لنُغتصب على أسرّة الدولة اللاإسلاميّة. إلى أن بزغ فجر ذلك اليوم الذي سمعنا فيه أزيز الرصاص وهروب أهل اللحى مثل الفئران.

وشوارعنا فيها صيحات لم نعتد على سماعه من قبل: “يا عليّ.. يا زهراء.. ويا أمّ البنين.. يا أبا الفضل”. ورايات خضر خُطّ عليها من خيوط الفجر. وروائح تشبه عطر القدّاح والياسمين، وشباب سمر السحنات، معهم رجل ذي لحية بيضاء، وقف بباب بيتنا، وقال لأبي: “نحن شيعة العراق خدّامكم وإخوتكم”! هذا الرجل أدار وجهه لأنّ زوجة أخي بلا حجاب. قال له أبي: “تفضّل”. فقال: “أريد أن أصلّي فقط”. وكأنّ الملائكة تصلّي خلفه وهو يقول: “يا ربّ انصرنا بحقّ الزهراء”! أتمّ صلاته. فخرج وهو يقول: “لقد ولّى زمن البأس، وأنتم أحرار بفضل الله!”، ونحن مذهولون.

هل قتلت أمريكا ابن الزهراء؟! بالله عليك، هل رحل من صلّى في بيتنا؟! نعم يا أختنا، لقد رحل ذو اللحية البيضاء!

فسلام عليك يا أبا مهديّ الشهيد المهندس الذي قال عنك الإمام الخامنئيّ دام ظله يوماً: صاحب الوجه النورانيّ، يوم جاهدت وحرّرت، ويوم استشهدت، ويوم تُبعث حيّاً…

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل