السؤال: أليس الله عادلاً؟ وإذا كان لا يهب الإنسان ما لا مصلحة له فيه، فلماذا خَلَق بعض عباده ناقصي الخِلقة؟ هل ليتعذّبوا؟ أريد أن أفهم فلسفة ذلك.

قبل الجواب، لا بدّ من التّذكير بأنّ العدل هو «إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّه». وبناءً على هذا، فإنّ صدق عنوان العدل يتوقّف على وجود حقّ ثابت، فحيث لا حقّ، لا معنى للعدل ولا للظّلم.

تخيّل أنّك قرّرت مساعدة فقيرَين، فأعطيتَ أحدهما 2000 وأعطيتَ الآخر 1000، فهل يحقّ للثّاني أن يعترض قائلاً: لماذا أعطيتَه أكثر منّي؟ طبعًا لا؛ لأنّ كليهما لا يملك حقًّا عليك أصلاً. أنت أعطيتَهم من رغبتك وإرادتك، ومع ذلك ميّزتَ بينهما لسببٍ أو بلا سبب؛ وهذا لا علاقة له بالعدل أو الظّلم. بل حتّى لو لم تُعطِ تالثًا شيئًا، لم تَظلمْه؛ لأنّ الظّلم لا يتحقّق إلّا بوجود حقّ مهضوم.

علاقتنا بالله تعالى على هذا النّحو:

ليس لأحدٍ منّا حقٌّ ثابت على الله حتى يُطالبه به، أو يحتجّ عليه في كيفيّة توزيع نعمه، أو يجعل من تفاوت الأرزاق مدخلاً للتّشكيك في عدله سبحانه.

لكنْ، وإن لم يكن توزيع النّعم مرتبطًا بعدل الله، إلّا أنّه مرتبط بحكمته. كما لو أنّك فرّقتَ بين الفقيرين لسببٍ معقول، فسوف يُعتبر فعلك هذا حكيمًا، وإن كان بلا سبب عُدَّ فعلك اعتباطيّا.

إذن، فيما يخصّ إعطاء الله النِّعم أو منعها، لا يجري الحديث عن العدل بالمعنى المتعارف، لأنّ العدل يفترض وجود “حقّ” للعبد على الله، وهذا غير متحقّق كما سبق. بل الذي يكون محلّ البحث هنا هو “الحكمة الإلٰهيّة”؛ أي وجود سببٍ معقول وغايةٍ حكيمة وراء تفاوت النِّعم بين النّاس.

وهنا يجب أن نسأل أوّلًا: مِن أين تنشأ هذه الاختلافات بين النّاس؟ وما معيار تفاوتهم في النّعم الظّاهرة؟

والجواب: أنّ جزءًا مهمًّا من هذه التّفاوتات يرجع إلى أسباب طبيعيّة دنيويّة. فمثلًا: كثير من حالات الإعاقة أو نقص الخِلقة عند الأطفال ترجع إلى أخطاء أو إهمال أو جهل الأبوين، وأدّت إليها السّلسلة الطّبيعيّة للأسباب، ولم يكن الله سبحانه قد أراد إعاقته بذاتها إرادةً تشريعيّة، بل قانون العلّيّة الذي خلق الله سبحانه الوجود طبقه هو الذي أوصل إلى هذه النّتيجة.

وقد نسأل: هل يُعدّ هذا النّظام الحكيم نظامًا عادلاً، مع أنّ إنسانًا قد يتأذّى بسبب خطأ غيره؟

والجواب: إنّ إرادة الله الحكيمة اقتضت أنّ كلّ ظاهرة لها سببها الخاصّ، وهذا ما يقيم الحياة ويجعل الأفعال ممكنة.

فلو لم يكن نظام العلّيّة قائمًا لما أمكن فعل شيء، ولا اتّخاذ قرار، ولا توقّع نتيجة، ولأصبح كلّ شيء ممكنًا من أيّ سبب لا علاقة له به.

فبمقتضى هذا النّظام الأحسن تتوالد النّتائج من أسبابها: فكما أنّ استعمال مضادّ حيويّ يُشفي المريض، فإنّ استعماله في زمن الحمل قد يؤثّر في الجنين ويُحدث تشوّهات. وكما أنّ قانون الجاذبيّة أساس الاستقرار والعمار، فإنّه أيضًا يَقتل مَن يسقط من شاهق.

وعليه: فإنّ توقّع أن يُبدّل الله نتيجة هذه الأسباب، وأن يجعل ما ينتهي إلى ولادة طفلٍ معاقّ سببًا لولادة طفلٍ سليم، هو توقّع غير معقول؛ لأنّه يناقض عموم قانون العلّيّة، ويعطّل اختيار الإنسان ويجعله مسيّرا، ويفقد العالم انتظامه.

نعم، الطّفل المعاقّ يتألّم بسبب جهل أو سهو والديه، وهذه نتيجة حتميّة لعالم المادّة، حيث تتفاعل الموجودات بعضها مع بعض، وحيث تنتفع أجيال من وراثة آبائهم، ويقع آخرون في ضرر وراثيّ بلا اختيار منهم. ولا يصحّ أن نقبل الوجه الإيجابيّ من تأثيرات الوراثة ونعترض على وجهها السّلبي.

لكن الأهمّ أنّ الله سبحانه وتعالى يراعي هذه الفوارق، ولا يكلّف ذا الإعاقة بتكليف الصّحيح، ويُحاسب كلّ إنسان بحسب طاقته وظروفه، فلا ظلم في التّكليف ولا في الجزاء.

وتُصرّح الرّوايات بأنّ من ابتُلوا بالشّدائد -لأسباب اختياريّة أو غير اختياريّة، وإن أفادتهم الابتلاءات يقظةً من الغفلة وتربيةً للنّفس- فإنّهم فوق ذلك يُعطَون في الآخرة أجرًا بلا حساب، حتّى إنّ أهل العافية يتحسّرون يوم القيامة على ما فاتهم، ففي الحديث: «يوم القيامة يتمنّى أهل العافية لو أنّ جلودهم قُرِّضت بالمقاريض في الدّنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء».

وعليه: فذوو الإعاقات لا يكلَّفون بما لا يطيقون، ويجزيهم الله على ذلك دون أدنى ظلم، وتفاوت النّعم الدّنيويّة يُعادُ ضبطه بدقّة في الحياة الأبديّة، حيث يتحقّق الميزان الكامل للعدل الإلهيّ، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}.

للمشاركة:

روابط ذات صلة

السؤال : كيف يستدل على إمامة أهل البيت "ع" بالآية الكريمة : "إني جاعلك للناس إماما" رغم أن من معاني إمامتهم الخلافة وإمامة النبي ابراهيم "ع" ليس لها علاقة بالخلافة ؟
سورة الحشر، آية 18، صفحة 584 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ . لماذا تكررت واتقوا الله في نفس الآية؟
السؤال: هل الدنيا -في نظر الإسلام- مذمومة أم محمودة؟
ورد عن الامام علي عليه السلام( من قبض يده مخافة الفقر فقد تعجّل الفقر)فهل هو صحيح؟ورد عن الامام علي عليه السلام( من قبض يده مخافة الفقر فقد تعجّل الفقر)
هل توجد أدلة عقلية على الشفاعة ؟

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل