ربُّ الظاهرِ هو ربُّ الباطن
هناك معزوفةٌ قديمةٌ جديدة، نسمعها هاهنا وها هناك، كبراها أنَّ الإسلام يهتم بالباطن لا بالظاهر، ومن جزئيات تلك الكليَّة الكبرى قولهم: (انَّ اللهَ تعالى لا يهتمُّ بالحجاب كثيراً، فما فائدةُ الحجاب للمرأة التي تضحكُ بصوت عالٍ وتمزحُ مع الرجال؟ ان تكون المرأة محتشمة مع الرجال ولا تتحجب هو الامرُ الذي يريده الله تعالى؛ لأنَّه تعالى يريدُ نقاءَ الباطن لا الظاهر).
ويقولون ايضاً: (الكثيرُ من الرجالِ يصلون ويصومون، ولكنَّهم يكذبون ويغشون في معاملاتهم مع النَّاس – ثم يتبرَّعون عن الله تعالى قائلين- نحنُ نقولُ لكم لا تصوموا ولا تصلوا ونحنُ نضمنُ لكم انَّ اللهَ يرضى عنكم)
ويقولون أخرى: (لماذا تُراعون الظاهر في إطالة اللحية والتختم باليمين مثلاً؟ لا تظلموا النَّاس ولا تأكلوا أموالهم بالباطل، فعدمُ اكل الأموال ظلماً اهمُّ من اطالة اللحى).
هذا كلامٌ سمعناهُ وسمعتموه، وقرأناهُ وقرأتموه، وهو ليس جديداً على الساحة ولا حديثاً على الأسماع، بل هو فاكهة السامر، ومضغة المتحدِّث.
وهنا أودُّ أن اقولَ أنَّ ربَّ الظاهر هو ربُّ الباطن، وهو من أمرَ بهما جميعا، فالله تعالى الذي أمر بالحجاب الظاهري في مثلِ قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ) هو الذي أمر بالحجاب الباطني -ان صحت التسمية- والاحتشام مع الرجال في مثل قوله تعالى (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) وهذا الخطاب للنّساء جميعاً لا لخصوص نساءِ النَّبي لأنَّ خصوص المورد لا يُخصصُ الوارد.
ثم من قال إنَّ الله تعالى لا يريدُ هذا الحجاب الظاهري لو كانت المرأةُ غير محتشمةٍ مع الرجال؟ ولسانُ الآيةِ صريحٌ في الحثِّ عليه؟ أو انَّه تعالى يتنازل عن هذا الفرض لو دار الامرُ بين الحجاب مع عدم الرزانة او الرزانة مع ترك الحجاب فيختار الثاني على الاول؟ فيتبرع الناس عن اللَّه تعالى بأن يقولوا للمرأة اتركي الحجاب وكوني محتشمة رزينة؟
الله تعالى لا يتنازل عن واجب، ولايتنزَّل لمكلَّفٍ او مكلَّفة، واذا وُجِدَت مثلُ هذه المرأة نقولُ لها: حجابُك جيد وهو مطلوبٌ لله تعالى، ولكن عليك أن تكوني مع ذلكِ محتشمة رزينة.
اما تبرعهم بأن لا تصوموا ولا تصلوا، ولكن اصلحوا معاملاتكم مع النَّاس نضمنُ رضا اللَّه عنكم، فهو غريبٌ جداً، فالصلاة والصيام من دعائم الاسلام الخمس التي بُنيَ الإسلام عليها، وخصوصاً الصلاة فهي عمود الدين، والصلاة التي لا يتنازل الله تعالى عنها حتى في حالة مرض الإنسان الشديد، بل وفي سكرات الموت والتي يريدها منه ولو إيماءً، كيف يتنازلُ عنها في حالة اقلّ منهما بحجة انها امرٌ شكلي والجوهري في الموضوع هو صدق المعاملة مع الناس؟
الذي يقولُ إن الصلاة امرٌ شكليٌّ خُدِع بظاهر صلواته هو، حيثُ يؤديها بلا روحٍ وبلا مضمون فظنَّها أمراً شكليا ليس إلا، ولو أنَّه نأمَّل قوله تعالى ( يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ) التي وردت أربع مرَّاتٍ في القران الكريم، وعرف الفرق بينها وبين (صلى) لما تفوَّه بهذا القول.
ينبغي أن نقول: إن صدق المعاملة مع الناسِ امرٌ جوهريٌّ، ولكن الأحسن بالمؤمن والاجدر بالمسلم أن يكون صادقا مع الله في معاملته وأولها الصدق في أداء الصلاة، فاذا أقامها بشرائطها واجزائها وفقه الله لا لعمل المعروف فحسب بل للأمر بالمعروف واجتناب الغش في المعاملة.
أما الاستهزاء بإطالة اللحى والقول أن هذا امرٌ ليس بتلك الأهمية مادام شكليا والمهم هو عدم أخذ المال بالباطل، فهذا الكلام تردُّه الرواية الآتية حين جاء رسولا كسرى الى رسول الله صلى الله عليه واله وكانا قد أطالا شاربيهما وحلقا لحيتيهما، سألهما رسول الله صلى الله عليه واله بما مضمونه :- من أمركما بإطالة الشارب وحفَّ اللحى؟
قالا :- ربُنا، أي سيدهما كسرى.
فقال صلى الله عليه واله: ولكن ربي أمرني بإطالة اللحية وحفِّ الشارب، الرواية بالمضمون،
بإمكان رسول الله صلى الله عليه واله ان يفكر تفكير هؤلاء المثقفين فيقول: – هذان رسولا كسرى، وفارس دولةٌ عالميةٌ، فلماذا اعكِّر الاجواء بقضية شكلية كقضية اللحية والشارب؟ أليس من الأجدر بي أن أُقيم علاقة دبلوماسية مع بلاد فارس وهو امرٌ جوهري؟
إنَّ رسول الله صلى الله عليه واله كان يفكر بشكلٍ عميق، وهو أن لا يتنازل عن مبادئه حتى ولو كانت مما يتعلَّق بالشكل، ويذكرُ من خدم في جيش النظام السابق ماهي عقوبة من لا يحلق لحيته في الجيش، ويذكر الجميع أن النظام السابق كان يؤاخذ الشباب المؤمن آنذاك على (جريمة إعفاء اللحية من الحلق) فلو كانت القضية قضية شكل لما كان لهذا الموضوع هذه الأهمية عند النظام السابق، وأعرف مؤمنين من الناس أعدموا وسجنوا لأنهم رفضوا حلق لحاهم.
لماذا نعتبر أن إطالة اللحية قضية شكل، في حين لا نستطيع أن نعتبر تقصير الشعر في الحج أمرا شكليا؟ الى درجة أن عدم التقصير عمداً يوجب بطلان العمرة وانقلاب حجه إلى الأفراد، وهو على وزان الخلل الذي يوجبه عدم صلاة الطواف عمداً وهو البطلان.
دعوة لهؤلاء الذين يقولون بالفرق بين الأمر الظاهري والباطني الى أن يتحلَّوا بالشجاعة وأن لا يتنازلوا عن ثقافتهم الدينية بحججٍ واهية، فان قيمة الإنسان الجوهرية تكمن في انَّه صاحب عقيدة يؤمن بما يسمونه هم ظاهراً وباطنا.