الانحطاط الفكريّ والعقائديّ:
انتشر الانحطاط الفكريّ في أغلب أطراف العالم الإسلاميّ وأكنافه، نتيجة عدم الاهتمام بتعاليم الدّين في مرحلة العشرين سنة الماضية. وفيما بعدُ، هُجر التّعليم الدينيّ، وتعليم الإيمان، وتفسير الآيات، وبيان الحقائق منذ زمن النبيّ – في مرحلة العشرين سنة بعد عام 40 للهجرة، وإلى ذاك الوقت – فابتُلي النّاس، بلحاظ الاعتقاد والأصول الإيمانيّة، بالخواء والفراغ. عندما يضع المرء حياة النّاس في ذلك العهد تحت المجهر، يتّضح هذا الأمر من خلال التّواريخ والرّوايات المختلفة الموجودة. بالطّبع، كان هناك علماء وقرّاء ومحدّثون، سيأتي التعرّض لهم، لكنّ عامّة النّاس ابتُلوا بعدم الإيمان، وضعف الاعتقاد ضعفًا كبيرًا. وقد وصل الأمر إلى حيث إنّ بعض أيادي جهاز الخلافة يُشكّكون في النبوّة! ذُكر في الكتب أنّ خالد بن عبد الله القسريّ – ويُعدّ من عمّال بني أميّة المنحطّين جدًّا، والسيّئين – كان يُفضّل الخلافة على النبوّة، ويقول: “إنّ الخلافة أفضل من النبوّة”، ثمّ يستدل قائلًا: “أخليفتك في أهلك أحب إليك وآثر عندك، أم رسولك”([1])، أي لو أنّك تركت في أهلك شخصًا يخلفك في غيبتك، فهل هو أفضل وأقرب إليك، أم ذاك الّذي يأتيك برسالةٍ ما من مكانٍ معيّن؟ فمن الواضح أنّ ذاك الّذي جعلته في بيتك خليفةً لك سيكون أقرب إليك. فخليفة الله – وهنا لا يقول خليفة رسول الله – هو أفضل من رسول الله!
إنّ ما كان يقوله خالد بن عبد الله القسريّ كان يجري على لسان الآخرين. وعندما ننظر في أشعار شعراء العصر الأمويّ، نجد أنّه منذ زمان عبد الملك قد تكرّر تعبير “خليفة الله” في الأشعار، إلى درجة أنّه ينسى المرء أنّ الخليفة هو خليفة النبيّ! فقد استمرّ هذا الأمر إلى زمن بني العبّاس.
بني أميّة هِبّوا طال نومُكمُ إنّ الخليفة يعقوب بن داوودِ
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمِسوا خليفة الله بين الزقّ والعودِ([2])
حتّى عندما كانوا يريدون هجاء الخليفة، كانوا يقولون خليفة الله! وأينما كان الشّعراء المعروفون في ذلك الزمان، كجرير والفرزدق وكُثير وغيرهم، ومئات الشّعراء المعروفين والكبار، عندما يريدون مدح الخليفة، كانوا يُطلقون عليه لقب خليفة الله، لا خليفة رسول الله. وهذا نموذجٌ واحد. لقد ضعُفت عقائد النّاس بهذا الشكل، حتّى فيما يتعلّق بأصول الدين.
الانحطاط الأخلاقيّ:
في عهد الإمام السجّاد عليه السلام، انحطّت الأخلاق بدرجة شديدة. وبالرجوع إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج، وهو أنّه في سنوات الـ 70 والـ 80 والـ 90 والمئة، إلى 150 – 160 تقريبًا، فإنّ أشهَر المغنّين والمطربين واللاعبين والعابثين في العالم الإسلاميّ كانوا في المدينة أو في مكّة، وكلّما كان يضيق صدر الخليفة في الشام شوقًا للغناء، ويُطالب بمغنٍّ أو مطرب، كانوا يرسلون له من المدينة أو مكّة أحد المطربين المعروفين، أو المغنّين. فأسوأ الشعراء والماجنين كانوا في مكّة والمدينة. فمهبط وحي النبيّ، ومنشأ الإسلام، أضحى مركزًا للفحشاء والفساد. ومن الجيّد أن نعرف هذه الأمور بشأن تاريخ المدينة ومكّة.
وسنتعرض لنموذجٍ من رواج الفساد والفحشاء:
كان في مكّة شاعرٌ يُدعى عمر بن أبي ربيعة، وهو من شعراء التعرّي والمجون، وقد مات في أوج قدرته وفنّه الشعريّ. ولو أردنا ذكر قصص هذا الشّاعر، وماذا كان يفعل في مكّة، لاحتاج الأمر إلى فصلٍ مشبّعٍ بالتّاريخ المؤسف لذلك العصر، في مكّة والطواف ورمي الجمرات. وهذا البيت مذكور في كتاب المغني:
بدا لي منها معصمٌ حينما جَمَّرت وكفٌّ خضيبٌ زُيّنت ببنان([3])
فوالله ما أدري وإن كنت داريًا بسبعٍ رميتُ الجمر أم بثمانيِ([4])
وعندما مات عمر بن أبي ربيعة، ينقل الراوي أنّه أقيم في المدينة عزاءٌ عامّ، وكان النّاس يبكون في أزقّة المدينة. ويقول إنّني أينما ذهبت كنت أجد مجموعة من الشباب، نساءً ورجالًا، واقفين ويبكون عمر بن أبي ربيعة في مكّة، فشاهدت جارية تسعى في عملها، وتحمل دلواً لتُحضر الماء، وكانت دموعها تنهمر على خدّيها بكاءً على عمر بن أبي ربيعة غمًّا وأسفًا، وعندما وصلت إلى مجموعة من الشّباب، سألوها لماذا تبكين لهذا الحدّ؟ فقالت لأنّ هذا الرّجل قد مات وخسرنا، فقال لها أحدهم، لا تحزني هناك شاعرٌ آخر في المدينة هو خالد المخزوميّ، والّذي كان لمدّةٍ حاكمًا على مكّة من طرف علماء الشّام، وقد كان من شعراء التعرّي والمجون، كعمر بن أبي ربيعة، فذكروا لها ذاك البيت، وأرادوا أن يذكروا لها بعض الأبيات الشعريّة لهذا الشّاعر، فاستمعت هذه الجارية قليلًا – وقد ذُكر في “الأغاني” هذا الشّعر وخصائصه – فمسحت دموعها وقالت: “الحمد الله الّذي لم يُخلِ حرمه”، فإذا فُقد شاعرٌ جاء آخر. هذا نموذج من الوضع الأخلاقيّ لأهل المدينة.
والقصص كثيرة عن سهرات مكّة والمدينة. ولم تكن المسألة منحصرة بالأفراد المنحطّين، بل شملت الجميع في المدينة، بدءًا من ذاك المتسوّل المسكين، كأشعب الطمّاع المعروف الّذي كان شاعرًا ومهرّجًا، ومرورًا بالأفراد العاديّين وأبناء السّوق، وأمثال هذه الجارية، إلى أبناء المعروفين من قريش، وحتّى بني هاشم، كانوا من هؤلاء الّذين غرقوا في هذه الفحشاء.
وفي زمن أمارة هذا الشّخص المخزوميّ، جاءت عائشة بنت طلحة، وكانت تطوف، وكان يُحبّها، وعندما حان وقت الأذان، أرسلت هذه المرأة رسالةً أن لا تؤذّنوا حتّى أُنهي طوافي، فأُمر بعدم رفع أذان العصر! فقيل له أنت تؤخّر الأذان من أجل شخصٍ واحدٍ وامرأة تطوف: أوَتؤخّر صلاة النّاس؟! فقال: واللهِ لو أنّ طوافها بقي إلى الصبح لقلت لهم أن يؤخّروا الأذان إلى الصبح! هذا كان حال ذلك الزمن.
جمعية المعارف الإسلامية
([1]) ابن قتيبة الدينوريّ، الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، نشر دار إحياء الكتاب العربيّ، الطبعة الأولى، 1960م، القاهرة، ص 346.
([2]) السيد المرتضى علم الهدى، علي بن الحسين، أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد- ، تحقيق وتصحيح محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار الفكر العربيّ، الطبعة الأولى، 1998م، القاهرة، ج1، ص141.
([3]) ابن هشام الأنصاري، مغني اللبيب، تحقيق وفعل وضبط محمد محي الدين عبد الحميد، نشر مكتبة الشيخ آية الله المرعشي ـ قم، 1404هـ، ج1، ص 14.
([4]) ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن الشافعيّ، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق علي شيري، طبع ونشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1998م، ج69، ص260.