إن العلم يعني إدراك ما ينبغي، والعمل يعني فعل ما يجب فعله، فإذا لم ينتهِ العلم إلى العمل، وإذا لم يتحوَّل إلى سلوك قويم وأفعال إيجابية سليمة، ونَفسٍ صالحة، فلا قيمة له، بل هو وَبَالٌ على حامله.
ورُوِيَ عن الإمام علِيّ (ع) أنه قال: “عِلمٌ بِلا عَمَلٍ كَشَجَرٍ بِلا ثَمَرٍ”.
والعلم والعمل بما يعلم قرينان لا طلاق بينهما، فلا قيمة للعلم إذا لم يُعمَل به، ولا قيمة للعمل إذا لم يكن ناشئاً من العلم، الواحد منهما لا يغني عن الآخر، فلا تستقيم حياة المَرءِ بل الناس إلا بهما، العلم يجب أن يصنع الحياة، ويوجه السلوك والمواقف، ويضع الإنسان على الجادة القويمة، ويعرِّفه على الحق والصواب والتمييز بينهما وبين الباطل والخطأ، ويصبغ حياته بصبغة المعرفة، فلا قيمة للعلم إذا لم يتجسّد حياة راقية، وسلوكاً راقياً، ومواقف واعية، وأعمالاً هادفة، وحضارة إنسانية متقدمة.
والعلم إن لم يتحول إلى عمل يبقى معلومات مجرَّدة، كشجرة بلا ثمر، والعالِم من دون عمل يصير علمه حُجَّة عليه، ويحاسَب عليه، وتتوجه إليه المؤاخذة والمَلامة، فيقال له: علمتَ فلماذا لم تعمل؟، وما قيمة أن يعرف المرء التمييز بين الصواب والخطأ ثم لا يميز بينهما في الحياة، وما قيمة أن يعرف الحق والباطل ثم لا يتخذ موقفاً من الباطل، وما قيمة أن يعرف وجوب الدفاع عن المظلوم ثم لا يدفع الظلم عنه؟!
في أيامنا هذه نشهد هذه الظاهرة المخزية، علماء ومفكِّرون وباحثون يتشدَّقون بأحسن الكلام، ويُشَنَّفون آذان الأنام بخطب رَنّانة في تحريض المسلم على المسلم، والعربي على العربي، وتُسَخَّر لهم مختلف الوسائل الإعلامية الخبيثة، ولكنهم اليوم يصمتون عَمَا يجري من ظلم وجَور وتعَسُّفٍ، وليتهم يكتفون بالصمت بل يعملون خلاف ما يعلمون، ينصرون الباطل ويخذلون الحق، يدافعون عن الظالم ويحملون على المظلوم، يقلِبون الحقائق ويشوِّهون المفاهيم الصحيحة، ويجعلون من الدين أداة في أيدي الطغاة، يكَفِّرون من يعارضهم ويتبرؤون مِمَّن يخرج عليهم، إن هؤلاء المُسَمَّون عُلماء مثلهم كمثل الحِمار يحمل أسفاراً، يقرؤون القرآن ويخالفونه، ويدعون إلى التوحيد ويُشركِون الحاكم مع الله، يقدمون أمره على أمر الله وطاعته على طاعة الله، لم يتحوَّل علمُهم إلى منهج عملي للاستقامة، العلم يُثْقِل أذهانهم ولكنهم لا يتحركون بموجبه، كما تثقل الكُتُب ظهر الحمار وهو لا يدري ما يحمل على ظهره ولا ينتفع به، فلو حمل كل ما كتَبَه البشر سيبقى حِماراً، وهؤلاء لو ألقوا عشرات آلاف الخطب والمحاضرات والمواعظ وأَلَّفوا ملايين الكتب فهم باقون على حالهم من التناقض بين ما يعلمون وما يعملون، وهذه واقع شائن، وصورة مزرية قبيحة، وهذا علم كعدمه، بل الجهل أفضل منه، لأن الجاهل القاصر معذور، أما العالم العارف فعقابه شديد، واللَّوم لهم أشد، وعاقبته مخزية.
إن العلم يعني إدراك ما ينبغي، والعمل يعني فعل ما يجب فعله، فإذا لم ينتهِ العلم إلى العمل، وإذا لم يتحوَّل إلى سلوك قويم وأفعال إيجابية سليمة، ونَفسٍ صالحة، فلا قيمة له، بل هو وَبَالٌ على حامله.
وهكذا الحال في علاقة العمل بالعلم، فالعمل من دون عمل لا يستقيم، لأن لكل عمل مقدمات وشروط وأركان وزمان إن لم يعرفها المَرءُ خَبَطَ في عمله وتاه، بدل أن يقترب من غاياته وتحقيق أهداف ابتعد عنها، كمن يُصلّي الصلاة وهو جاهل بشرطية الطهارة، ووجوب الوضوء، وإباحة اللباس والمكان الذي يصلي بهما، وشرطية التوجُّه إلى القبلة، ودخول الوقت، وسوى ذلك من الأركان والأجزاء، فكيف ستكون صلاته؟ وكمن يبني داراً دون مراعاة للقواعد الهندسية الضرورية، أو يباشر إصلاح سيارة وهو لا يعرف كيف يعمل محركها، سيكون ما يُفسِده أكثر مما يُصلِحه، بل سيُفسِد كل شيء.
وهكذا الحال في الذين بَنوا حياتهم على عقائد زائفة وسلوكيات باطلة متوهَّمين أنهم على الحق وما هم على الحق، فهؤلاء أَضّلُّ الناس أعمالاً، لأن أعمالهم لم تنطلق من قاعدة الحق، إنهم عملوا ولكن أعمالهم ذهبت هباء، وكان سعيهم هباء، كما قال تعالى: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ﴿103﴾ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا” ﴿الكهف/104﴾.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
