أكّد القرآن الكريم على وجوب مراعاة المسلم طهارة غذائه الجسديّ، وفي الوقت نفسه أوجب عليه مراعاة طهارة غذائه الروحيّ، الأمر الذي صرّحت به السنّة الشريفة وحثّت عليه. وبعبارةٍ أخرى: يجب على المسلم أن يراعي طهارة غذائه، ظاهريّاً، وباطنيّاً، حتّى في أصعب الظروف.
ونستلهم من قصّة أصحاب الكهف في القرآن الكريم أنّهم، وإن كانوا بعد يقظتهم بحاجةٍ شديدةٍ إلى الطعام، ولكنّهم قالوا للشخص الذي كلَّفوه بشراء الطعام: لا تشترِ الطعام من أيٍّ كان، وإنّما انظر أيُّهم أزكى طعاماً وأطهر، فأتنا منهُ([1]).
إنّ معظم البشر في عصرنا الراهن أدركوا أهمّيّة طهارة الغذاء من اللَّوث الظاهريّ، لكنّهم ما زالوا غافلين عن أهمّيّة طهارته من اللَّوث الباطنيّ، الذي يؤثّر على الإنسان، إثر أكل السُّحت، من خلال المعاملات الربويّة، والغشّ، وغير ذلك.
ويوجد روايات مستفيضة حثّت الناس على ضرورة السعي في كسب لقمة العيش بطُرُقٍ مشروعّةٍ، نذكر منها ما يلي:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “العِبادَةُ سَبعونَ جُزءاً، أفضلُها طَلَبُ الحلالِ”([2]).
وروي عنه- أيضاً -: “مَن باتَ كالاً مِن طَلَبِ الحلالِ، باتَ مَغفُوراً لَهُ”([3]).
كما روى خالد بن نجيح، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: “أقرِؤوا مَن لَقيتُم مِن أصحابِكُم السَّلامَ، وقُولُوا لَهُم: إنَّ فُلان بِن فُلان يُقرِؤكُم السَّلامَ، وقُولُوا لَهُم: عَلَيكُم بِتقوَى اللهِ وما يُنالُ بهِ ما عِندَ اللهِ. إنِّي واللهِ ما آمُركُم إلا بما نأمُرُ بهِ أنفُسَنا، فعَليكُم بالجِدِّ والاجتِهادِ، وإذا صَلَّيتُم الصُّبحَ، فانصرَفتُم، فبَكِّروا في طَلبِ الرِّزقِ، واطلُبوا الحلالَ، فإنَّ اللهَ سيرزُقُكُم ويُعينُكُم عَليهِ”([4]) .
حدّد الإمام عليّ عليه السلام أوقات المؤمن، حيث جعل الوقت المخصّص للنشاط الاقتصاديّ، بمحاذاة العبادة، والمبادئ الخلقيّة، وقال: “وَليس للعاقِلِ أن يكون شاخصاً، إلّا فِي ثَلاثٍ: مرمة لمعاش، أو خطوة في معادِ، أو لَذَّةٍ فِي غَيرِ مُحرَّمٍ”([5]).
فأُطُر المعاملات التجاريّة والنشاطات الاقتصاديّة وما تختصّ بها من شروط، ذُكِرَت في أحاديث وروايات مستفيضة تتمحور برمّتها حول وجوب الكسب الحلال.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “طَلَبُ الحلالِ واجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ”([6]).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم-أيضاً-: “طُوبَى لِمَن اكتَسَبَ مِن المؤمِنينَ مالاً مِن غَيرِ مَعصِيَةٍ”([7]) .
كما أكّدت الروايات على وجوب مشروعيّة الدخل، فإنّها في الوقت نفسه حثّت على وجوب كون الإنفاق مشروعاً – أيضاً -، أي يجب على الإنسان أن يُنفق من ماله الذي يمتلكه بشكلٍ لا يتعارض مع أحكام الشرع، فلو أنفق مالاً اكتسبه من طريقٍ محرّمٍ، فعليه إرجاعه إلى أصحابه، وإن أنفقه في معاملة، فإنّ معاملته باطلةٌ.
والقرآن الكريم – بدوره – أشار إلى هذا الأمر في قوله تعالى: ﴿أنفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبتُم﴾([8]) ، وفسَّر الإمام جعفر الصادق عليه السلام هذه الآية بقوله: “إنَّها نَزلَت فِي أقوامٍ لَهُم رِباً فِي الجاهِلَيَّةِ، وكانُوا يَتَصَدَّقُونَ مِنهُ، فنَهاهُم اللهُ عَن ذلكَ، وأمرَ بالصَّدَقَةِ مِن الطيِّبِ الحلالِ”.
وهذا الأمر الربّانيّ يبيّن أهمّيّة الكسب الحلال وعدم الإفراط في اكتناز الأموال([9]) .
فن التدبير في المعيشة – رؤية قرآنية روائية – ، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، م.س، ج12، ص375.
([2]) الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب الحثّ على…، ح6، ص78.
([3]) ابن بابويه، محمد بن علي بن الحسين(الصدوق): الأمالي، المجلس48، تحقيق ونشر تحقيق مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، 1417هـ.ق، ح9، ص364.
([4]) الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب الحثّ على…، ح8، ص78-79.
([5]) الرضي، نهج البلاغة، م.س، الحكمة 390، ص93.
([6]) المتّقي الهندي، علاء الدين: كنز العمّال، كنز العمّال، ضبط وتفسير الشيخ بكري حياني، تصحيح وفهرسة الشيخ صفوة السقا، لاط، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1409هـ.ق/ 1989م، ج4، ح9204، ص5.
([7]) الكليني، الكافي، م.س، ج8، كتاب الروضة، ح190، ص169.
([8]) البقرة: 267.
([9]) الطبرسي، مجمع البيان، ج2، ص191.