Search
Close this search box.

أسس إصلاح ذات البين وحل النزاعات في القرآن الكريم

أسس إصلاح ذات البين وحل النزاعات في القرآن الكريم

من أبرز الآياتِ التي تحدّثت عن الصلح قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾([1]).

فهذه الآية تدعو إلى تقوى الله وطاعته. وطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الالتزام بأحكام الشريعة وقيمها الإنسانية السامية، وإصلاح مشاكل المجتمع التي تحدث بين النّاس. وحلّ منازعاتهم بالتي هي أحسن.

وقوله قال تعالى: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾([2]).

كلمة “النجوى” لا تعني الهمس فقط، بل تطلَق على كلّ اجتماعٍ سرّيٍّ أيضًا. ولكي لا يحصل وهمٌ من أنّ كلّ نجوى أو همس أو اجتماع سرّيّ يعتَبر عملًا مذمومًا أو حرامًا، جاءت الآية بأمثالٍ، كمقدّمةٍ لبيان قانونٍ كلّيٍّ، وأوضحت الموارد التي تجوز فيها النجوى، مثل أن يوصي الإنسان بصدقةٍ. أو بمعونة للآخرين، أو بالقيام بعمل صالحٍ. أو أن يصلح بين الناس، فتقول الآية في هذا المجال: ﴿إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.

فإذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الاجتماعات السرّيّة لا يشوبه الرياء والتظاهر. بل كان مخصَّصًا لنيل مرضاة الله، فإنّ الله سيخصّص لِمِثل هذه الأعمال ثوابًا وأجرًا عظيمًا([3]).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عليه السلام، قَالَ: “إِنَّ اَللَّهَ فَرَضَ اَلتَّمَحُّلَ فِي اَلْقُرْآنِ. قلْتُ: وَمَا اَلتَّمَحُّلُ – جعِلْتُ فِدَاكَ -؟ قَالَ: أَنْ يَكُونَ وَجْهُكَ أَعْرَضَ مِنْ وَجْهِ أَخِيكَ. فَتَمَحَّلْ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ﴾، وَفِي كِتَابِ اَلْمُؤْمِنِ. وَإِنِ ابْتُلِيَ، فَأَعْطِهِ وَتَحَمَّلْ عَنْهُ وَأَعِنْهُ”([4]).

قَالَ اَلصَّادِقُ عليه السلام، “فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾: قَالَ: يَعْنِي بِالْمَعْرُوفِ اَلْقَرْضَ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اَلرِّبَا، لِيَتَقَارَضَ اَلنَّاسُ”([5]).

وقوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾([6]).

فقد سجّل القرآن الكريم حادثةَ منازعات بين قبيلتَين في عصر النزول. وحدث بينهما خلاف وقتال. ووجّه المسلمين في ذلك الوقت، ودعاهم إلى أن يسارعوا للإصلاح بينهم. والوقوف بوجه المعتدي الذي يرفض الاستجابة للإصلاح وحلّ هذا النِزاع.

وقوله تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾([7]).

والآية تدلّ على عناية القرآن الخاصّة في إصلاح المشاكل الأُسريّة. وحلّ منازعات الأُسرة، عندما يعرض صورةً من مشاكل الأُسرة، ويدعو لحلِّها صلحًا.

ويرشد القرآن الكريم في آيات أُخَر. إلى آليّةٍ عمليّةٍ لحلِّ النِزاع الذي يحدث بين الزوج والزوجة. جاء هذا البيان في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾([8]).

والمستفاد من هذه الآيات، الأمور الآتية:

1- مشروعيّة الصلح، ويؤكَّده قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “اَلصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ اَلْمُسْلِمِينَ، إِلَّا مَا حَرَّمَ حَلاَلًا. أَوْ حَلَّلَ حَرَامًا”([9]).

2- في الآيات دلالةٌ على أنّه شرّع لقطع التنازع.

3- الصلح له عناوين متعدّدة. من أهمّها: حقن الدماء. وإصلاح ذات البَين. وإصلاح حال الزوجين.

4- في الصلح نفعٌ عظيمٌ، إذ مع قطع النزاع. يحصل تمام نظام النوع. وفوائد المعاش. فلذلك وصفه – سبحانه – بأنّه “خَيْرٌ”، أي خيرٌ عظيمٌ. والسعي فيه لإصلاح ذات البَين فيه أجرٌ جزيلٌ، عن النَبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “إِصْلاَحُ ذَاتِ اَلْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ اَلصَّلاَةِ وَاَلصِّيَامِ”([10]).

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام. قَالَ: “إِنَّ اَلشَّيْطَانَ يغْرِي بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ. مَا لَمْ يَرْجِعْ أَحَدُهُمْ عَنْ دِينِهِ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ. اِسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَتَمَدَّدَ، ثمَّ قَالَ: فزْتُ! فَرَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَءًا أَلَّفَ بَيْنَ وَلِيَّيْنِ لَنَا. يَا مَعْشَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، تَأَلَّفُوا وَتَعَاطَفُوا”([11]).

إنّ القرآن يدعو المسلمين إلى البرِّ، وهو المعروف والإحسان، وإلى تقوى الله، وإلى الإصلاح بين الناس، فيخاطبهم بقوله: ﴿لاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾([12]).

وعندما يتعاون أفراد المجتمع، ويصلحون ذاتَ بينِهم، وما فسدَ من مجتمعهم، فإنّهم ينقذون أنفسَهم ومجتمعَهم من الجريمة والسقوط والمنازعات والأحقاد. فالإصلاح، في تشخيص القرآن، وقايةٌ من الهلاك والدمار. فلْنَقِ أنفسنا ومجتمعنا من الهلاك والدمار، كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾([13]).

ويثبِّت القرآن مبدأَين أساسَّين للإصلاح، هما:
أوّلًا: أساس الحقّ والعدل، فالقرآن يريد أن يبني الحياة على أساس الحقّ والعدل. وعندما يحدث نزاعٌ بين طرفَين، يأمرنا القرآن أن نحلّ هذا النِزاع بالعدل والقسط، قال تعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾([14]).

ثانيًا: والأساس الثاني من الأُسس التي يرتكز عليها الإصلاح وحلّ المنازعات الذي يدعو إليه القرآن الكريم، هو أساس العفو والتسامح، قال تعالى: ﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾([15]).

﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾([16]).

زاد القلوب في شهر الله، دار المعارف الإسلامية الثقافية

([1]) سورة الأنفال، الآية 1.
([2]) سورة النساء، الآية 114.
([3]) الشيخ مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج3، ص452.
([4]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص245.
([5]) قطب الدين الراونديّ، أبو الحسين سعيد بن هبة الله، فقه القرآن، تحقيق السيّد أحمد الحسينيّ، مكتبة آية الله العظمى النجفيّ المرعشيّ، إيران – قم، 1405ه، ط2، ج1، ص384.
([6]) سورة الحجرات، الآيتان 9-10.
([7]) سورة النساء، الآية 128.
([8]) سورة النساء، الآية 35.
([9]) ابن أبي جمهور الأحسائيّ، عوالي اللئالي، مصدر سابق، ج1، ص219.
([10]) المصدر نفسه، ص266.
([11]) الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص345.
([12]) سورة البقرة، الآية 224.
([13]) سورة الأنفال، الآية 25.
([14]) سورة الحجرات، الآية 9.
([15]) سورة البقرة، الآية 237.
([16]) سورة البقرة، الآية 178.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل