في السیرة الإمام علي الـرضا /
أدرك هارون الرشيد عمق الارتباط بين الإمام الكاظم (عليه السلام) والمسلمين، ووجد أنّ القاعدة الشعبية للامام (عليه السلام) تتوسّع بمرور الزمن، فما دام الإمام حيّاً فإنّ المسلمين يقارنون بين منهجين : منهج الإمام الكاظم (عليه السلام) ومنهج هارون، وبالمقارنة يشخّصون النهج السليم المستقيم عن النهج المنحرف .
ومن هنا أدرك خطورة بقاء الإمام (عليه السلام) حرّاً نشيطاً، فأخذ يخطط لسجنه، وتجميد نشاطه والمنع من تأثيره في المسلمين .
إضافة الى ذلك فإنّ مواجهة الإمام (عليه السلام) له في أكثر من موقف واعتراضه عليه أمر لا يمكن لشخصية مثل هارون أن تسكت عنه، كما لم يسكت الإمام على تصرفات هارون العدوانية على الأمة الاسلامية وشريعة سيد المرسلين، وتجلت المعارضة والمواجهة في مواقف وممارسات لم يستطع هارون استيعابها، فحينما قال له : يا أبا الحسن حُدَّ فدك حتى أردّها عليك، فأجابه : لا آخذها الاّ بحدوده، وقد حدّدها له بـ عدن، وسمرقند، وافريقية، وسيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية، وقد وضّح الإمام (عليه السلام) بأنّ فدكاً هي الخلافة المغتصبة، وعند ذلك عزم على قتله [1] .
وسلّم هارون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند قبره قائلاً : السلام عليك يا رسول الله يا ابن العم، فقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : السلام عليك يا ابه، فقال هارون : هذا هو الفخر. ثم لم يزل ذلك في نفسه حتى استدعاه في سنة ( 169 هـ ) وسجنه فأطال سجنه [2] ثم أفرج عنه بعد ذلك .
واُدخل الإمام الكاظم (عليه السلام) على هارون مرّة، فقال له ما هذه الدار ؟ فقال (عليه السلام) : هذه دار الفاسقين [3] .
وكثرت الوشايات ضد الإمام (عليه السلام) عند هارون تحرضه عليه وكانت منها وشاية يحيى البرمكي حيث قال له : إنّ الاموال تحمل إليه من المشرق والمغرب، وانّ له بيوت أموال [4] .
فقام هارون باعتقال الإمام (عليه السلام) سنة ( 179 هـ ) وبقي في سجن البصرة سنة كاملة كما تقدم .
وفي سنة ( 180 هـ ) سجن ببغداد، ونقل من سجن الى آخر حتى اغتاله أحد عملائه وهو في السجن .
وكان الإمام الرضا (عليه السلام) يزوره في السنين الاولى من سجنه كما هو المستفاد من رواية علي بن يقطين حول الوصية له [5] .
وأمر الإمام الكاظم (عليه السلام) الإمام الرضا (عليه السلام) أن: ينام على بابه في كل ليلة ما كان حيّاً الى أن يأتيه خبره، فمكث على هذه الحالة أربع سنين، فلما كان ليلة من الليالي أبطأ عن فراشه ولم يأت فاستوحش العيال، فلما كان من الغد أتى الدار ودخل الى العيال وقصد الى أم أحمد زوجة أبيه، فقال لها : هات التي أودعك أبي، فصرخت وقالت: مات والله سيدي، فكفّها وقال لها : لا تكلمي بشيء ولا تظهريه، حتى يجيئ الخبر الى الوالي [6].
وقد أوصل محمد بن الفضل الهاشمي خبر استشهاد الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى الإمام الرضا (عليه السلام) بأمر منه ودفع اليه بعض الودائع لإرسالها اليه.
وفي اليوم نفسه ذهب محمّد الى البصرة ليبلّغ خبر استشهاد الإمام (عليه السلام) ثم تبعه الإمام الرضا (عليه السلام)بعد ثلاثة أيام من وصوله، فأقرّ له بعض أهل البصرة بالإمامة فرجع في نفس اليوم إلى المدينة.
ثم اتّجه الإمام الرضا (عليه السلام) إلى الكوفة والتقى بأتباع أبيه ثم عاد إلى المدينة [7] .
ولمّا شاع خبر رحيل الإمام الكاظم (عليه السلام) في المدينة اجتمع أتباع أهل البيت (عليهم السلام) على باب أم أحمد، واجتمعوا مع أحمد ابن الإمام الكاظم(عليه السلام) فذهب بهم إلى أخيه الإمام الرضا (عليه السلام) فبايعوه على الإمامة [8].
ولم يتصدّ الإمام (عليه السلام) علناً لإمامة المسلمين، وإنّما كان الأمر سرّياً ولم يعلن عنه الاّ بعد أربع سنين طبقاً لوصية أبيه.
وقد عاش الإمام الرضا (عليه السلام) محنة أبيه وانتقالاته من سجن الى سجن حتّى استشهاده ولم تكن الظروف ملائمة، ولم توجد مصلحة في إعلان المعارضة، فبقي الإمام (عليه السلام) يتجرّع الألم ومرارة المحنة كاتماً أنفاسه مراعياً للظروف العصيبة التي تمر بالمسلمين عموماً وبأتباع أهل البيت(عليهم السلام) خصوصاً .
الانفراج النسبي في عهد هارون
لقد استشهد الإمام الكاظم مسموماً سنة (183 هـ ) [9] وبايعاز من هارون الرشيد، وكان هارون يخشى تسرّب خبر السم والاغتيال الى المجتمع الاسلامي .
من هنا خطط لتفادي ذلك، وذلك حين جمع القوّاد والكتّاب والقضاة وبني هاشم، ثم كشف عن وجه الإمام (عليه السلام) وقال : أترون أنّ به أثراً ما يدلّ على اغتيال ؟ قالوا: لا [10] .
وأدخل السندي بن شاهك الفقهاء ووجوه أهل بغداد، ليتفحصوا في جثمانه، فنظروا إليه ولا أثر به من جراح أو خنق، وأشهدهم على أنه مات حتف أنفه، فشهدوا على ذلك، وأخرج الجثمان الطاهر ووضعه على الجسر ببغداد ونودي : هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه [11] .
وبقيت الهواجس محيطة بهارون، حيث كان يحتمل أن تنفجر الأوضاع متمثلة في حركة شعبية واسعة تهدّد سلطانه، لذا اتّخذ اُسلوب التخفيف من محاصرة الإمام الرضا (عليه السلام) وأهل بيته لامتصاص النقمة الشعبية وتقليل ردود الأفعال، ولم يتخذ أيّ إجراء متشدّد مع الإمام (عليه السلام)، ورفض الاستجابة لمن أراد منه قتله، كما نلاحظ في موقفه من عيسى بن جعفر حيث قال لهارون : اُذكر يمينك التي حلفت بها في آل أبي طالب، فإنّك حلفت إنْ ادّعى أحد بعد موسى الإمامة ضربتَ عنقه صبراً، وهذا عليّ ابنه يدّعي هذا الأمر، ويُقال فيه ما يقال في أبيه، فنظر اليه مغضباً فقال : وما ترى ؟! تريد أن أقتلهم كلهم ؟! [12] .
وحينما حرّضه خالد بن يحيى البرمكي على قتل الإمام الرضا (عليه السلام) قال هارون : يكفينا ما صنعنا بأبيه، تريد أن نقتلهم جميعاً ؟! [13] .
إن موقف هارون هذا كان ناجماً عن رغبته في امتصاص النقمة الشعبية أوّلاً، ولم يلاحظ أيّ نشاط معارض لسلطانه من الإمام الرضا (عليه السلام) على الرغم من كثرة الجواسيس والوشايات وشدّة المراقبة له .
التصدّي للإمامة
وفي الفترة الواقعة بين سنة ( 183 هـ ) الى سنة ( 187 هـ ) لم يعلن الإمام الرضا (عليه السلام) عن إمامته، ولم يظهر له أيّ تحرّك علني في المدينة من خطب أو لقاءات عامّة، ولم يسجّل عليه أي حضور في المحافل العامة .
وقد أدرك هارون من خلال أخبار عيونه أنه كان بعيداً عن الأحداث، وهذا ظاهر من الرواية التالية التي تقول :
دخل أبو الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) السوق، فاشترى كلباً وكبشاً وديكاً، فلما كتب صاحب الخبر إلى هارون بذلك، قال : قد أمنّا جانبه [14] .
ولم يصدّق هارون الأخبار الواردة عن غير طريق عيونه السرّيّة، كالخبر الذي أورده أحد أحفاد الزبير بن العوّام على هارون من أنّه: قد فتح بابه ودعا الى نفسه ، فقال هارون عند وصول الخبر: واعجباً من هذا ! يكتب أنّ علي بن موسى (عليه السلام) قد اشترى كلباً وكبشاً وديكاً، ويكتب فيه ما يكتب [15] .
فلم يلتفت إلى قول الزبيري، وترك الإمام الرضا (عليه السلام) وشأنه، الى أن مضت أربع سنين من استشهاد الإمام الكاظم (عليه السلام) فقام الإمام الرضا (عليه السلام) بالأمر علناً عملاً بوصية من أبيه ـ كما تقدم ـ وكان ذلك في سنة (187 هـ ) وهي السنة التي قام فيها هارون بقتل البرامكة، وكان لقتلهم دور كبير في خلخلة الأوضاع السياسة لأنّهم كانوا أركان الحكومة ومشيّدي صرحها، وبقتلهم انتهت أو خفّت الوشايات على الإمام الرضا (عليه السلام) لأنهم كانوا من أشدّ المحرِّضين على قتل أهل البيت (عليهم السلام)، وهذه الظروف ساعدت الإمام (عليه السلام) على التصدّي للإمامة، فقام بالأمر وهو مطمئن إلى عدم قدرة هارون على سجنه أو قتله، وقد حذّره بعض أنصاره من التصدّي للإمامة وقالوا : إنّك أظهرت أمراً عظيماً وإنّا نخاف عليك من هذا الطاغية فقال (عليه السلام) : ليجهدنّ جهده فلا سبيل له عليّ [16] .
وأجابهم في موقف آخر قائلاً: إنْ خُدشت خدشاً من قبل هارون فأنا كذّاب [17] .
وتصدّي الإمام الرضا (عليه السلام) لا يعني المعارضة السياسية، فقد تصدّى الإمام (عليه السلام) لمحاربة الأفكار والعقائد الهدّامة واهتم بنشر الفكر الاسلامي السليم في مجالي العقيدة والشريعة، وهذا الأمر لا يهمّ هارون مادام الإمام (عليه السلام) لا يعارض سلطانه .
ومما ساعد على هذا الانفراج النسبي هو انتقال هارون إلى الرّي سنة (189 هـ) ، ثم إلى خراسان سنة (192 هـ) ، ثم وفاته سنة (193 هـ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ربيع الأبرار : 1 / 316 وعنه في تذكرة الخواص: 314.
2- البداية والنهاية : 10 / 183 .
3- الاختصاص : 262 وعنه في بحار الانوار : 48 / 156 .
4- مقاتل الطالبيين : 415 .
5- الكافي : 1 / 311 .
6- الكافي : 1 / 381 ـ 382 .
7- الخرائج والجرائح : 1/341 ح 1 وعنه في بحار الانوار : 49 / 73 .
8- المختار من تحفة العالم للسيد جعفر بحر العلوم، الملحق ببحار الأنوار : 48 / 307 ـ 308 .
9- مروج الذهب : 3 / 355 .
10- تاريخ اليعقوبي : 2 / 414 .
11- الارشاد: 2/242 وعنه في اعلام الورى: 2/34 وفي كشف الغمة: 3/24.
12- عيون أخبار الرضا : 2 / 226 .
13- الفصول المهمة : 245 .
14- عيون أخبار الرضا: 2 / 205 .
15- عيون أخبار الرضا: 2/226 .
16- اعلام الورى: 2/60 وفي الفصول المهمة : 245 .
17- عيون أخبار الرضا : 2 / 213 .
المصدر: أعلام الهداية