الجواب: نحن في الأعمال العبادية لا نجعل هدفنا الأساسي البحث عن علّة كلّ حكم أو تكليف؛ لأن إدراك علل هذه التكاليف، في كثير من الأحيان، يتجاوز حدود الفهم العقلي البشري. فحقيقة العبادة لله تعالى تقوم على التسليم والانقياد والطاعة دون اعتراض أو تشكيك، وإن كان مجال التأمّل والتدقيق العقلي في هذه الأمور مفتوحًا في الجملة.
وما ينبغي أن يحظى بعناية خاصّة في باب العبادات هو ألّا تكون العبادات مُبتدَعة من عند أنفسنا، بل أن تكون قد وردت عن النبي أو الإمام. فنحن في ممارستنا للعبادات نسعى إلى الاقتداء الدقيق بالسلوك التعبّدي للمعصومين عليهم السلام. فإذا كانوا يؤدّون العبادة على نحوٍ خاص، فلا شكّ أنّ ذلك النحو كان محبوبًا عند الله تعالى، وينطوي على حكمة إلهية، وإن لم نكن نحن قادرين على إدراك تلك الحكمة أو الوقوف على تفاصيلها.
دعاء «يا من أرجوه لكلّ خير…» هو دعاءٌ معتبر، فقد أورده جميع العلماء الذين جمعوا روايات الأدعية، وهو في الوقت نفسه دعاءٌ عظيم القدر صالحٌ للقراءة في كلّ زمان وحين (1)، كما أنّه واردٌ في صباح ومساء شهر رجب، وبعد الصلوات أيضًا (2). غير أنّ نصّ الدعاء وكيفية أداء المعصومين عليهم السلام له قد نُقلا مع شيءٍ من الاختلاف اليسير.
ففي إحدى الروايات جاء أنّ الإمام عليه السلام، عندما قرأ الدعاء إلى قوله: «وَزِدْنِي مِنْ سَعَةِ فَضْلِكَ يَا كَرِيم» رفع يده، وقال: «يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا النعماء والجود، يا ذا المنّ والطول، حرّم شيبتي على النار».
ثمّ ـ بعد الفراغ من الدعاء ـ وضع يده على لحيته المباركة، ولم يرفعها حتّى ابتلّ ظهر يده من الدموع (3).
وفي نقلٍ آخر، وهو الذي اعتمده المرحوم الشيخ عباس القمّي في كتاب مفاتيح الجنان، والمرويّ خصوصًا في شأن شهر رجب، جاء أنّ الإمام عليه السلام، حين طلب السائل منه دعاءً، قال له:
«اكتب هذا الدعاء»،
ثم قرأ الدعاء إلى قوله:
«وَزِدْنِي مِنْ فَضْلِكَ يَا كَرِيم»؛
ويقول الراوي: «مدَّ يده اليسرى فقبض بها على لحيته، ودعا بهذا الدعاء، وهو يلوذ بسبابته اليمنى»؛
أي إنّ الإمام عليه السلام أمسك لحيته المباركة بيده اليسرى، وأخذ بسبابته من يده اليمنى هيئة الالتجاء والاعتصام، وقرأ هذا الدعاء نفسه (والظاهر من العبارة أنّ المقصود هو الدعاء المذكور سابقًا، أي من أوله إلى قوله: «من فضلك يا كريم»)، ثم قرأ الإمام عليه السلام القسم الأخير من الدعاء، وهو قوله:
«يا ذا الجلال والإكرام…» (4).
وكما يظهر من ظاهر هذه العبارة، فإنّ ما هو الشائع اليوم بين المؤمنين من القيام بهذه الهيئة في الجزء الختامي فقط من الدعاء لا ينسجم مع الكيفية التي صدرت عن الإمام عليه السلام؛ بل إنّ الإمام كان يقوم بهذا العمل من بداية الدعاء إلى نهايته، كما أنّ تعبير الشيخ عباس القمّي في مفاتيح الجنان جاء مطابقًا لنصّ الرواية، ومخالفًا لما اشتهر من الأداء العملي بين الناس.
أمّا بشأن الحكمة من هذا العمل، فيمكن القول: إنّ القدر المتيقَّن هو أنّ ماهية هذه الهيئة تعبّر عن اتخاذ حالة الالتجاء والخضوع بين يدي الله تعالى، وتُعدّ نوعًا من التذلّل وإظهار العجز أمام عظمة الباري سبحانه.
وهذا ما ورد عن الأئمة الأطهار عليهم السلام، فقد روى أبو بصير عن الصادق (عليه السلام) قال: سألتُه عن الدعاء ورفع اليدين فقال: “على أربعة أوجه: أما التّعوّذ تستقبل القبلة بباطن كفيك، وأما الدّعاء في الرزق فتبسط كفيك وتفضي بباطنهما إلى السماء، وأما التّبتّل فإيماء بأصبعك السّبّابة، وأما الإبتهال فرفْع يديك تُجاوز بهما رأسك. ودعاء التّضرّع أن تحرّك أصبعك السّبّابة مما يلى وجهك، وهو دعاء الخيفة”(5).
*ترجمة مركز الإسلام الأصيل
الهوامش:
- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، نشر الوفاء، بيروت، 1403هـ، ج 47، ص 36.
- المصدر نفسه، ج 95، ص 390.
- المصدر نفسه، ج 47، ص 36.
- المصدر نفسه، ج 95، ص 391.
- الكافي للكليني ج2 ص481.